النساء في الانتفاضات العربية وبعدها
قبل التفكير في دور النساء خلال الانتفاضات العربية وبعدها، عليّ ان أوضح ما قد يكون يكتنفه الغموض، فرغم اني سوف اقدّم نقاطاً عامة وواسعة حول الانتفاضات العربية، او عن النساء، فإني أعي تماماً ان التعميم، في هذه الحالة، سيبسّط واقع مجتمعات شديدة التعقيد، ما سيغيّب الكثير من الفروقات بينها. وأعي ايضاً ان التكلّم على الانتفاضات العربية، سيغيّب الشعبين الكردي والامازيغي، وغيرهما من الشعوب غير العربية التي تعيش في هذه الدول.
علي ان اعترف بأنني انكمش بعض الشيء، عندما اريد التكلّم على «النساء» كفئة، وخاصة لأن ما انوي مناقشته يفترض اساساً انه من المستحيل التكلّم على النساء كفئة متجانسة، من دون تحديد اماكنهن، وطبقتهن، وواقع مواطنيتهن، وسياساتهن، وموقعهن الجيوسياسي.
كيف نقرأ قصصهن؟
قصص النساء خلال الانتفاضات، وبعدها، تبيّن الفوران والاثارة والعنف وانعدام اليقين، التي تتسم بها الاوقات الثورية. ولكنها ايضاً تلمّح الى المواضيع او الشؤون التي بحاجة الى معالجة. المواضيع الخمسة التي انوي معالجتها هي التالية:
اولاً ،ان تصرف النساء، قبل الانتفاضات وخلالها،هو مختلف ومعقد.
ثانياً، أنه، في نضال النساء، كثيرات ممَّن برزن استخدمن ما يعرف «بالخطاب الحقوقي» - بدلاً من «خطاب العدالة» - لصياغة مطالبهن السياسية.
ثالثاً، أن اجساد النساء كانت، بالمعنى الحرفي والمجازي، مساحات للصراع: في بعض الاوقات كمواضيع للعنف الجنسي وغير الجنسي، وفي اوقات اخرى كرموز للثورة، او الشرف الوطني، او كتعبير عن فساد النظام القديم، او عن اثر الامبراطورية او نفوذها.
رابعاً، أن هناك توتراً مستمرّاً، في جميع الحركات الثورية، ما بين مطالب النساء الخاصة، من اجل العدالة، والاهداف العامة للحركات الثورية.
اخيراً، لفهم التعقيدات حول كيف ناضلت النساء، والاهداف التي ناضلن من اجلها، علينا الاخذ بعين الاعتبار، ليس فقط هويتهن الجندرية، بل ايضاً كيف ان هويتهن الجندرية تتقاطع مع الابعاد الطبقية والاماكن والاقتصاد السياسي والجيوسياسة.
النساء يفعلن
لم تكن مشاركة النساء في السياسة، قبل العام ٢٠١١، حالة من «المقاومة» او «النضال النسوي» وحسب، بل في الواقع، وبحسب مواقعهن الاجتماعية، ومواقعهن من ضمن البناء الهرمي للنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وقربهن من، أو ابتعادهن عن، المراكز المدينية الاساسية (كالقاهرة، أو تونس، أو بنغازي او طرابلس)، فإن الدور الذي لعبنه اختلف الى حدّ كبير.
في هذه الدول، التي شهدت انتفاضات، والتي تنشط فيها النقابات، كانت النساء منظمات عماليات في النقابات والجمعيات المهنية. فإضرابات الاساتذة في البحرين لعبت دوراً اساسياً في الانتفاضة هناك، وكانت جمعية المعلمين البحرينية محركاً اساسياً للنساء، قبل الانتفاضات، وخلالها، وبعدها. ففي البحرين للنساء موقع مهم في الاتحادات او المنظمات المهنية، ويمثِّلن قطاعي الصحة والخدمات البلدية، وفيهما كليهما كنَّ نشيطات، خلال الانتفاضة.
ولكن التنظيم النقابي لم يتوسّع ليضمّ القطاع الكبير من العمال المهاجرين المنخرطين في العمل المنزلي، الذي يتشكّل بغالبيته من النساء. فالمفوضية السامية للامم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) تؤكد ارتفاع مستوى التمييز بحق العمال المنزليين المهاجرين، من جذور جنوب اسيوية، منذ بداية الانتفاضات.
اما في تونس، فالمناضلات العماليات يتمتعن بوجود قوي وقديم، في الحركة النقابية، ويدفعن الاتحاد التونسي العام للشغل نحو المزيد من التسييس. وذلك مع وجود وظهور قوي للنساء في قطاعات نقابية معينة للعمال وعاملات الرعاية الصحية، والاطباء والمعلمين/ات، وغيرها من قطاعات الرعاية، التي تشتغل فيها النساء، في العادة.
وفي اليمن، وبالمثل، ففي الروابط والجمعيات المهنية التي تعمل كنقابات، والتي تميل الى احتواء اعداد كبيرة من المنتسبات النساء (كروابط وجمعيات المعلمين/ات او العاملين/ات في الرعاية الصحية)، كانت النسوة فاعلات، في مروحة واسعة من القضايا، قبل الانتفاضة، وخلالها. وتأكيداً على هذا، فإن أحد الادوار التي لعبتها توكّل كرمان كان، بوصفها رئيسة لرابطة صحفيات، تحت اسم «نساء صحفيات بلا قيود».
وفي مصر، كثير من الاضرابات لعمال النسيج وعاملاته، في المحلّة، كانت تقودها نساء. ففي اضراب في العام ٢٠٠٦:
«ثلاثة آلاف امرأة أضربن، ودخلن إلى مركز الشركة، مطالبات زملاءهن من الرجال بالانضمام الى الاضراب. توقف العمل تماماً في المصنع، ولثلاثة ايام اصبحت المنطقة مسرحاً لمسيرات ومظاهرات. وسرعان ما انتقل هذا الانتصار، ليس فقط الى باقي قطاع النسيج والغزل المضطرب، بل ايضاً الى قطاعات اخرى من الاقتصاد، والى موظفي الخدمة المدنية»1. وخلال اسابيع، اضربت مجموعة واسعة من العمال: «موظفو الخدمة المدنية، والسائقون، ومحاسبو المترو ومترو الانفاق، وعمال الاسمنت، وعمال القمامة، والصيادون، وحتى جباة الضرائب العقارية»2. والعديد منهم استطاعوا تحصيل تنازلات من قبل الادارة. ومن الجدير ملاحظة هذه النضالية، خاصة لأن النساء، وإن كنّ يشكلّن حوالى ٢٠٪ فقط من القوى العاملة المصرية، يعملن بشكل اساسي في «الزراعة، والتعليم والخدمة المدنية، بينما العمالة الصناعية تضم ما يقل بقليل عن ٥٪ من القوى العاملة النسائية»3.
والنساء ايضاً عملن، في انحاء العالم العربي، كعضوات في احزاب سياسية، اكانت مرخصة او في المعارضة، او احزاباً سرية. فتوكّل كرمان مثلاً لم تكن فقط ناشطة في رابطة الصحافيين/ات، بل كانت ايضاً عضواً بارزاً في حزب الاصلاح. وفي مصر وتونس اعداد كبيرة من الناشطات النساء، من اجيال مختلفة، ارتبطن مع الاخوان المسلمين وحزب النهضة؛ ولم يعتبرن انفسهن كناشطات من اجل النساء، او نساء، بل اعتبرن انفسهن افراداً تقيات ومسلمات. وكثيرات من الناشطات النساء في البحرين كنّ منتسبات إلى حزب الوفاق وغيره من الاحزاب المرخصة وغير المرخصة. بالاضافة، فالحركات الطلابية في جميع هذه البلدان - اكانت مرتبطة بشكل وثيق او بشكل فضفاض بالاحزاب الرسمية والاحزاب السياسية السرية - كانت جميعها تسجّل مشاركة واسعة من قبل النساء.
فالنطاق الحقوقي مال الى التمركز حيث تنشط الكثير من النساء - عادة ما ينتمين الى الطبقات الوسطى -. فنموذج الجمعيات غير الحكومية تشكَّلَ حول النضالات من اجل حقوق المواطنة للنساء، وغيرها من القضايا الحقوقية، ومال الى العمل من ضمن اطار مؤسسي واستراتيجي ليبرالي، وعمل على اشراك الدولة بدلاً من تحديها. وفي تونس، وربما اكثر من غيرها، كان لهذا النوع من العمل دورٌ حاسمٌ في ضمان الحقوق القانونية التي اعطيت للمرأة، والحفاظ عليها.
هذا وتحاجج ليليا لبيدي بأنه خلال محاولة الدفاع عن القانون ضد الهجمات الاسلامية عليه، في عهد بن علي، تمت مأسسة نشاط هذه المجموعات، وجرى احتواؤها من قبل الدولة، فتم النظر الى دفاعها عن القانون بأنه يوفر ذريعة لنظام بن علي4. وسأتكلم في ما يلي على دور المنظمات غير الحكومية والحقوقية.
فبالنظر الى ابعد من سياسات الاعتراض او المعارضة، نرى أن مشاركة النساء في النظام القديم وعملهن من داخله، يحددان ايضاً بدورهما ملامح صراعات وخلافات في الانتفاضات العربية. هنا قد تورطت بعض النساء في تعزيز سلطة الدولة؛ وهذا ما تتكلم عليه بعض الاكاديميات النسويات، كميرفت حاتم، بوصفه بـ«نسوية الدولة».
تتكلم حاتم على مصر، وتصف نسوية الدولة بكونها عبارة عن «برامج طَموحة للدولة تهدف الى ادخال تغييرات مهمة إلى ادوار النساء الانجابية والانتاجية»5. ففي حالة مصر، تصف حاتم التحولات الكبرى، التي، للمفارقة، لم تعط النساء حقوقاً، فقط، في اماكن العمل وفي التعليم، بل ايضاً استضافت، وفي بعض الاحيان، رسّخت الفروقات الجندرية القائمة. وينطبق الواقع نفسه بشكل كبير على تونس واماكن اخرى.
ويبدو لي ان اختلاف السياقات يمتد الى ما هو ابعد من وضع المرأة، وهذا يعني ان التنظيم الجندري للعمل في الانتفاضات يختلف ايضاً، مع اختلاف المخاوف، ووسائل التعبئة، والدور الذي تلعبه النساء في الشارع وفي التنظيم، بتأثره بهذه السياقات المختلفة.
«الخطاب الحقوقي» ام «خطاب العدالة»؟
يمكن أن نلاحظ، وخاصة في هذه اللحظة السياسية، هيمنة عالمية للخطاب الحقوقي. الكثير من الاكاديميين والباحثين في المجالين، القانوني والسياسي، لاحظوا كيف ان انتصار المنظومة المؤسساتية لحقوق الانسان قد ترافق مع، وربما اعتمد على، خيبة الامل في القومية المناهضة للاستعمار. فالخطاب الحقوقي غالباً ما يتم إنتاجه ضمن مساحة حقوق الانسان والانسانية، او مجالها.
يعتمد هذا الخطاب على التوجّه الى جمهور واسع - غالباً ما يكون عابراً للامم -، مستخدماً قواعد انتهاك الحقوق الاساسية والطبيعية؛ وهو غالباً ما يكون فارغاً وبإصرار من الحكم السياسي، ويعتمد كثيراً على الضغوطات الخارجية على الانظمة المحلية من اجل تأمين الحقوق. وتتمتع اجزاء واسعة من هذه المنظومة المؤسساتية بتمويل جيد، وتنظيم واسع، وبصلاحية اخلاقية، وحسابات عالمية، على الاقل مرحلياً، لضمان هيمنتها الحالية. والخطاب الحقوقي - كما هو مدموج في المؤسسات الليبرالية العابرة للامم - يجلب معه نمطاً معيناً من الاشكال التنظيمية، ويحتوي النشاط (النشاطية) ويدجّنه، ويحوّل السياسة الحزبية (او، في الاماكن التي يستحيل وجود سياسة حزبية فيها، اشكال التعبئة القاعدية) الى اشكال من المنظمات غير الحكومية، ويخلق كادراً مهنياً، يجيد الخضوع امام المراجعات السياسية من قبل الممولين المتركزين بشكل اساسي في العواصم الاوروبية الليبرالية. وخاصة، وبسبب وجود هذه القيود المالية والاقتصادية والهيكلية والسياسية، يتم تقييد الخطاب الحقوقي - وبطبيعة الحال - تضييق النضال وتحديده ضمن مطالب او تغيرات قانونية بحتة.
ان هيمنة الخطاب الحقوقي على خطابات النساء، في مساحة النضالات العربية، يمكن تفسيره من خلال هيمنة النساء على عدد كبير من المنظمات غير الحكومية، وان جزءاً كبيراً من النشاط النسائي - كغيره من اشكال الاعتراض - قد حُوِّلت ارضية او بنية نضاله من التعبئة الجماهيرية حول اجندات سياسية الى نمط عمل المنظمات غير الحكومية (NGOisation)، حول ما بات يُعلن عن أنه «حقوق اجتماعية»6.
ايضاً هناك خاصية طاغية - وكثيراً من الاحيان حاسمة - للخطاب الحقوقي هي ان عبء العمل تحوّل من نمط التعبئة الى نمط التدخّل الخارجي - إما من خلال الضغط من قبل قوى خارجية على الدولة، او حتى من خلال التدخّل العسكري.
اما خطاب العدالة، بالمقارنة، فيميل الى الاعتماد على مفردات محلية للعدالة والظلم، وفي كثير من الاحيان يتخذ ابعاداً طبقية، ويُستخدم، تقريباً بشكل دائم، من اجل التعبئة السياسية المحلية. فمروجو خطاب العدالة في فترة الغاء الاستعمار (decolonization) كانوا، بطبيعة الحال، القادة الكاريزماتيين المناهضين للاستعمار، وقد تحولت انظمتهم في نهاية المطاف الى مقبرة لمثل المساواة والتحرر. في هذه الايام، يلاحَظ أنه، في ظل غياب للاحزاب المنظمة والمتماسكة، تُرك خطاب العدالة الى مجموعة واسعة من الحركات، التي في بعض الاحيان لا تعبر عن مطالبها بلغة العدالة الاجتماعية، او اعادة التوزيع او المساواة (حتى لو ان خطاب العدالة هذا ارتكز اصلاً على مخزون غني من المفردات الاشتراكية والشيوعية)، ولكنه يتكلّم على الفساد والمحسوبية، وفي بعض الاحيان يظهر بأشكال شعبوية، وتحت ستار غير مرجح، كشغب كرة القدم او انتفاضات الخبز. وبالطبع فإن خطاب العدالة يطغى ايضاً على خطابات العمال والعاملات المضربين/ات، الناشاطين/ات المناصرين/ات للقضية الفلسطينية (على الرغم من انه، في هذه الحالات، تلجأ بعض المجموعات الى خطابات حقوق الانسان)، والخوبزيست (العاطلين عن العمل - Khobzistes - في تونس).
ما اجده مثيراً للاهتمام هو ان الخطاب الحقوقي هو الخطاب السائد في الانتفاضات العربية، ولقد تم اعتماده بأشكال مختلفة ومتنوعة. ففي كثير من بلدان الانتفاضات العربية، يُستكمل الخطاب الحقوقي بخطابات العدالة الاجتماعية - لكل من المجموعات الواسعة من النشطاء والنساء. وهذا يتبيّن بشكل اساسي في كل من مصر واليمن، والى حد اقل في البحرين، حيث خطابات العدالة الاجتماعية بقيت في اشكال يسارية، في بعض الاحيان في النقابات والنشاط العمالي؛ وفي احيان اخرى حول قضايا تعنى بالظلم نتيجة السياسات النيوليبرالية، وسوء توزيع الموارد، وتزايد التفاوت في الثروة والسلطة. وفي كل من تونس وسوريا، وفي ظل ظروف متباينة، تم استبدال خطاب العدالة الاولي، وبسرعة، بخطاب حقوقي. ومن البديهي القول ان تدخّل الناتو في ليبيا فعّل هذا الخطاب الحقوقي بشكل صارخ تحت مظلّة «مسؤولية الحماية» (Responsibility to Protect).
وأنا أشعر بأنه، في الاماكن التي حوّل فيها الخطابُ الحقوقي نفسَه بشكل كاف لدمج خطاب العدالة الاجتماعية، وللتعبئة على اساس تحصيل الحقوق من خلال التنظيم والعصيان المدني والاعتراض، وبنفس الوقت التوجه لا الى القوى العالمية بل الى الجماهير المتضامنة، في هذه الحالة، يصبح هذا الخطاب اكثر فعالية.
حيث أن استخدام، او تفعيل، خطاب عالمي حول الحقوق، من دون دمجه بفهمٍ لأنماط انعدام العدالة المحلية، وتحدٍّ لها، او من خلال الابقاء على لغة غريبة وغير مألوفة، واعتماده على القوى العالمية - حكومية كانت او ما فوق حكومية - او على دول، من اجل اعطاء الحقوق، ينتج حينها هذا الخطاب تشققات طبقية، وتشرذم التعبئة الجماعية، وضعضعة شبكات المنظمات والتنظيمات المحلية، التي لها دور حاسم في التعبئة، عندما تنشأ الحاجة لها.
أجساد النساء كمساحات صراع
ليس هناك مجال للجدل في أنه، في اي لحظة اضطرابات، يتم خوض الكثير من الصراعات الاديولوجية والاجتماعية، التي نراها في الانتفاضات العربية، على مساحة اجساد النساء. ففي كل الانتفاضات العربية، اتُّهمت الناشطات النساء من قبل الانظمة المسيطرة (وحتى من قبل الانظمة الجديدة التي تسلمت السلطة) بانعدام الاخلاق او الفجور.
ولكون الكثير من النساء قضين الوقت في ميدان التحرير، أواللؤلؤة، أوالتغيير، في القاهرة والمنامة وصنعاء، قام مناصرو النظام بالادعاء أن النساء المتظاهرات قد تخلّين عن ادوارهن، كأمهات وبنات، وكأمثلة ممتازة للفضيلة؛ والله يعلم ما هي انواع الرذيلة والقذارة التي كانت تحدث في مساحات النوم المشتركة في مخيمات الاحتجاج.
وفي مصر، تجسدت هذه التهم بالفجور، بعنف، عندما قام العسكر بفرض فحوصات للعذرية على النساء المتظاهرات، يجريها اطباء ذكور، والهدف من ذلك كان ترهيب هؤلاء النساء، واضفاء صفة «العار» عليهن، وتأمين غطاء قانوني لما هو فعلياً اعتداء جنسي.
وفي سوريا، قامت بعض اطراف المعارضة بتأديب حلفائهم العلمانيين، معترضين على «عدم تواضع» البسة النساء. واستراتيجيات النضال، كذلك، تحدد مشاركة النساء في بعض اشكال الاحتجاج، وليس في غيرها. فبينما يتبيّن ان التحركات والاحتجاجات الجماهيرية واحتلال الساحات العامة هي مساحات مرحّبة بمشاركة المرأة، تميل معارك الشوارع (كالتي حصلت ما بين مشجعي الالتراس والشرطة في مصر) او النضال المسلّح (كما في ليبيا وسوريا) الى تقليص مشاركة النساء والحد منها بشكل كبير.
في اعقاب الانتفاضات، بدا وكأن العمل الاول او خطاب الكثير من الانظمة الجديدة هو التأكيد على حقوق المرأة، إما من خلال اجراءات تنظيمية جديدة، او من خلال التراجع عن قوانين الاحوال الشخصية القائمة. ان النقاشات القائمة حول قوانين الاحوال الشخصية تعتمد على تاريخ، وذاكرة واسعة، حول الموضوع، كما على ترابط سياسي، ولذلك فهي لم تُحسَم. هي معقدة، وتقع في قلب علاقات المدّ والجزر للسياسات الاحتجاجية، التي تصاغ من خلال لغات حقوقية وعدالاتية مختلفة.
لربما الشأن الاكثر الحاحاً في هذه الاثناء هو مسألة التقييد الجسدي لنشاط المرأة السياسي، مثلاً من خلال تزايد اعداد الاعتداءات الجنسية، في ميدان التحرير. التحرش الجنسي قبل الانتفاضة استهدف النساء من جميع الطبقات وجميع اشكال اللباس؛ ولكن بعد الانتفاضة، يبدو أن المستهدفات هن النساء المتواجدات في ساحات الاحتجاج العامة، وفي التحرير، بعد حلول الظلام.
إن تعقُّد الطرق، التي من خلالها تصبح اجساد النساء نقاط ارتكاز للصراعات السياسية، يمكن تلخيصه في قصة علياء المهدي. ففي أكتوبر/تشرين الاول ٢٠١١، اختارت علياء المهدي ان تخلع ملابسها للاحتجاج ضد الطرق التي تتم مصادرة جسد المرأة بها، من جانب الآخرين، وتمت مواجهتها من قبل مروحة واسعة من الناشطين/ات المصريين/ات (حتى مَن منهم إلى اليسار)، الذين رأوا أن تعَرِّيها هو، في احسن الاحوال، من دون جدوى، وهو يلهي عن المهمة الثورية، وفي اسوأ الاحوال، هو مثال على الفساد الأخلاقي والتدهور الاجتماعي. ففي سياق الواقع المصري، يخلخل عري علياء المعايير الجندرية التي ترى عري المرأة كإهانة، ليس فقط لقواعد اللياقة، بل لربما ايضاً لأسس العائلة، والمجتمع والنظام (وحتى الاخلاق الثورية). ولكن العري في السياق المصري، معلّقاً عليه بالعربية، ومع جمهور مصري، له معنى آخر تماماً، عندما يتم من اجل الجمهور الاوروبي، في عاصمة اوروبية، الى جانب نسويات اوروبيات بدت استفزازاتهن ضائعة، حتى في واقعهنّ المحدد. ففي ستوكهولم، عري علياء ليس (او ليس فقط) اعتراضاً ضد علاقات الاضطهاد الاجتماعية في مصر؛ بل هو لجوء الى حجة ثقافوية تموضع بشكل محدد اضطهاد المرأة في ثقافتها الخاصة – كالإسلام، على سبيل المثال - بدلاً من وضعه في اطار اوسع من التصادمات والنزاعات الاجتماعية حول العالم؛ وتجد هذه الحجة جمهوراً سعيداً ومشجعاً في الاوساط الكارهة للاسلام.
مطالب النساء او الاهداف الثورية
ربما يكون المأزق الاكثر ارباكاً في الاوقات الثورية هو كيف يمكن ان تتلازم نضالات النساء مع اجندة اوسع، من النضال السياسي الثوري؛ وسواء كيف يتم وضعها، او كيف يجب وضعها، ضمن سلّم الاولويات، الى جانب الاهداف الثورية الاخرى. فالافكار التي طرحتها ماكسين مولينيو حول الثورة في نيكارغوا، ودور النساء فيها، والتي كتبتها منذ عقود، لا تزال تمتلك راهنيتها اليوم:
«اذا ما قامت النساء بالتخلّي عن مصالحهن الخاصة، في الصراع العالمي من اجل مجتمع مختلف، ففي اي نقطة من الزمن، سيتم حينها اعادة الاعتبار لهذه المصالح من قبل القوى الثورية، او من خلال )الدولة الثورية( الجديدة، وإعطاؤها الشرعية، والاستجابة لها؟»7
إن الصعوبة في المسألة تكمن في كيفية دمج نضالات النساء من اجل الحقوق القانونية - قدرة المرأة لتمرير جنسيتها لاولادها، وحقوقها في الزواج والطلاق، وقدرتها على العمل، والدراسة، والسفر من دون موافقة وصي ذكر، بالاضافة الى غير ذلك - في اجندة اوسع، من التعبئة اليسارية/التقدمية.
هناك توازنٌ ما يجب ان يتم، من جهة، من اجل التعاطي بجدية مع هذه الحقوق القانونية، ومن جهة أخرى لكيلا يصبح النضال من اجل هذه الحقوق الوسيلة الوحيدة للتعبئة السياسية. في كلمات اخرى، النضال من اجل الحقوق القانونية يجب ان يتعايش الى جانب مهمات بناء التحالفات، وتثقيف الحلفاء السياسيين، والعمل على الحشد ابعد من المراكز المدينية للطبقة الوسطى، وتنظيم النساء (والرجال) حول مسائل المساواة، والتنظيم النقابي، والوصول الى العمل، والتعليم والرعاية الصحية. وان صعوبة ايجاد هذا التوازن تنعكس في النضالات الثورية في العالم العربي.
في القاهرة، تكلمت الكثيرات من المناضلات النسويات على صمت الكثير من التنظيمات اليسارية حول الاعتداءات الجنسية، في المساحات العامة، وحثثن «جميع القوى السياسية والثورية على عدم اعتبار قضايا النساء كقضايا عابرة، او كورقة مساومة تستخدم لمواجهة المعارضين السياسيين، الذين ينتمون الى الفكر الديني، او غيرهم. عوضاً من ذلك، هي (أي هذه القضايا) جزء رئيسي من الثورة والحراك السياسي الحالي، ومن النضال من اجل الحرية، الذي لعبت النساء دوراً حيوياً فيه، وضحَّيْنَ كثيراً لأجله».8
وفي تونس، قام الاتحاد العام التونسي للشغل بإعلان تأسيس تحالف نسائي سيعمل، بالتوازي مع الهموم النقابية الاخرى، على النضال من اجل الحفاظ على قانون الاحوال الشخصية، وبخاصة حظره لتعدد الزوجات، وهو القانون الذي تتم مواجهته من قبل السلفيين وحلفائهم في الحكومة، في تونس9.
ولكن المصالحة ما بين السياسات النسوية واليسارية ليست فقط حول ضرورات النضال. ان بنى اليسار، وأطر التعبئة، والسيرورات الداخلية فيها، يجب أن تخضع للتمحيص النسوي المستمر، على ان لا تكون تلك «النسوية» مجموعة من الهويات والممارسات الجامدة والمحددة سلفاً، بل عملية تقييم وتفكير مستمرين، حول مفاهيم وادوات التعبئة والنضال.
في نص شخصي، في مجلة اشتراكية لبنانية (المنتدى الاشتراكي)10، تقوم الكاتبة المجهولة الهوية بتحديد جميع الطرق التي تقوم بها الحركات اليسارية في لبنان، والتي تكرر نفس نوع ممارسات التفرقة الجنسية، في اماكن النشاط والنضال: كإسكات النساء في الاجتماعات؛ والحطّ من اهمية مخاوفهنّ، واعتبارها سخيفة وغير سياسية؛ وغياب النساء عن الكوادر القيادية والمتكلمين في الحركة اليسارية، وغيرها من الأمور.
إن تغيير انماط العمل التنظيمي ليس بالمهمة السهلة، كما انماط التفاعلات الداخلية، واجندات النشاط. فالتوفيق او الموازنة ما بين النضال من اجل الحقوق القانونية للنساء والنضال الاوسع بوجه الانظمة السياسية الحاكمة، يمكن للوهلة الاولى ان لا يظهر كما لو كان يتمحور حصراً حول النساء. فليس من السهل التنظيم، ضمن علاقة متوترة، دوماً، ما بين المطالب المعينة للنساء كنساء وحاجات البناء السياسي الاوسع. ولكنه امر لا بد من القيام به، إذا كان اليسار لا يريد التخلي عن الاجندات النسوية، وان تقوم النسويات بدفع معاركهن، في اطار تحالفات اوسع، من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
كيف تكون النساء كيانات سياسية؟
في النهاية، كيف نفكر بالنساء ككيانات او موضوعات سياسية؟ لقد بينت لنا النسويات الافريقيات-الامريكيات، والما بعد استعماريات، او ذوات النهج المنزوع عنه الطابع الاستعماري، انه من دون تقييم فئة «الجندر» او «النساء»، ومن دون مناقشة الفئات والابعاد الاجتماعية الاخرى، كالطبقة والاثنية، والجغرافيا والجيوسياسة، والاقتصاد السياسي والجنسانية، فنحن بطبيعة الحال نقوم، حينئذ، بإضافة الغموض على كل الطرق المعقدة والغادرة التي من خلالها تقوم علاقات القوّة في تأليف الفئات وهرميات السلطة.
إن قصتي كشخص نشأ لسنوات عدة في ايران الثورية، قبل الهجرة، تشبه الى حد ما قصة مارجانة ساترابي، التي ترويها في برسيبوليس (Persepolis) (الفرق ان عائلتي قدمت من بين تجار المحافظات، وليس من ارستقراطية طهران)؛ ولكن هذه ليست قصة فتاة من الطبقة العاملة من كرمانشاه، او قصة نساء بالوش في جنوب شرق ايران، او قصص النساء من العائلات الثرية والتقية في اصفهان او مشهد. اعرف ان الاختلافات الطبقية في ما بيننا، وأماكن تواجدنا، نادراً ما يمكن ان تسمح بدمجنا او اختزالنا في فئة «النساء الايرانيات». وبالطبع ألاحظ ايضاً كيف يتم هذا الاختزال مع النساء العربيات اللواتي ينتمين الى اكثر من عشرين بلداً.
لذا من الضروري تذكُّر ان النساء كفاعلات لسن يفعلن، بالضرورة، ودائماً، كنساء، او كنسويات؛ فيمكن ان يكنّ اشياء كثيرة وكبيرة، وفي حركتهن يمكنهن ان يكنّ بمثابة شيء آخر غير المرأة، وفي بعض الاحيان تكون افعالهن غير مقروءة للنساء الاخريات، او حتى لنسويات أخريات، لأي توجه انتمين.
هناك فكرة سائدة حول النسوية يتم النظر، من خلالها، الى النساء، كموضوعات ليبرالية مستقلة، وذوات وكالة لامتناهية، تصبو الى تحديد السلوكيات والى عزل الكيان النسائي (womanhood)، كونه المحور الاوحد للتحديد والممارسة. واعتقد انه من الضروري، امام ثقل التاريخ، ان نلاحظ أن قدرتنا على الحركة، واستراتجيات عملنا، هي غير مستقلة بتاتاً عما حولنا. فنحن نتأثر بكيف نكون ومن نحن: ما هي الطبقة التي ننتمي اليها، والتاريخ، والهويات الجنسانية، والاثنية، وما هي مواقعنا الجيوسياسية، وما هي انتماءاتنا وانتساباتنا الإديولوجية. ومن النادر جداً امكانية الفصل ما بين هذه النضالات؛ ومهما كان يبدو الامر صعباً، لا يمكننا عزل هذه الصراعات بعضها عن بعض، وعلينا التعلّم كيف نتخلّص من وهم الصرامة والمحدودية والاستقلالية، عندما نطرح مسألة هذه الصراعات والنضالات.
كما أظن أن التحوّل يأتي بشكل اكثر ديمومة، عندما يأتي من الداخل. وان العدالة للنساء - كما للجميع - يمكن ضمانها، وحمايتها بشكل افضل، كجزء لا يتجزأ من الكل، إذا كان الناس مستعدين ليحتشدوا ويتحركوا للدفاع عنها. هذا يعني البناء المستمر والدؤوب من اجل تشكيل دعم شعبي، وشبكات، وتنظيمات مبنية على قضايا وشؤون مروحة واسعة من النساء، ورفاقهن، في العديد من النضالات. هذه التعبئة تتطلب تحالفات استراتيجية، عبر مختلف الطبقات المضطهدة والإديولوجيات. لا شيء آخر ممكن ان ينجح: لا الصداقات الدولية، ولا الحرية تحت تهديد السلاح، ولا سخاء الدولة. فالعدالة تتطلب اليقظة والتعبئة.
--
عن الكاتبة:
لاله خليلي أستاذة معيدة في سياسة الشرق الأوسط في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن. وهي مؤلفة الكتابين التاليين:
1- Heroes and Martyrs of Palestine: The Politics of National Commemoration (Cambridge 2007); 2- Time in the Shadows: Confinement in Counterinsurgencies (Stanford 2013)
كما أنها رئيسة تحرير Modern Arab Politics (Routledge 2008)
وتشترك مع جيليان شويدلر في رئاسة تحرير Policing and Prisons in the Middle East: Formations of Coercion (Columbia/Hurst 2010).
- 1.Hossam El-Hamalawy, 2008. “Revolt in Mahalla” in International Socialist Review 59.
- 2.Ibid.
- 3.Anne Alexander and Farah Khoubeissy, 2008. “Women Were Braver Than A Hundred Men” in Socialist Review.
- 4.Lilia Labidi, 2007. “The Nature of Transnational Alliances in Women’s Associations in The Maghreb: The Case of AFTURD and Atfd in Tunisia” in Journal of Middle East Women’s Studies 3)1(: 6-34.
- 5.Mervat Hatem, 1992. “Economic and political liberation in Egypt and the demise of state feminism” in International Journal of Middle Eastern Studies 24)2(: 231–251.
- 6.Rita Hammami, 1995. “NGOs: the Professionalisation of Politics” in Race & Class 37: 51-63.
- 7.Maxine Molyneux, 1985, “Mobilization without emancipation? Women’s Interests, the State, and Revolution in Nicaragua” in Feminist Studies 11)2(: 227-254. I am grateful to Katie Natanel for drawing my attention to this article.
- 8.Nazra for Feminist Studies, “Position Paper on Sexual Violence Against Women and the Increasing Frequency of Gang Rape in Tahrir Square and its Environs”
- 9.Noureddine Bettayeb, 2013. “Women’s Uprising in Tunisia” in Al-Akhbar (8 March)
- 10.
-