مصر: ليلة العيد
بقلم نيفين مسعد. اليوم ليلة عيد الميلاد المجيد، أعود إلى بيتى فى المساء وأمر على الشرفة الزجاجية لمدام ليلى فى الطابق الأرضى من العمارة. ألاحظ نجمة فضية جديدة فى وسط شجرة الميلاد التى تتلألأ أنوارها من خلف الزجاج، هكذا اعتادت مدام ليلى أن تضيف إلى زينة الشجرة لمسة جديدة كل عام. أنقر على باب شقتها فتفتح لى متدثرة بشالها الصوف الكاروهات الذى لا يفارقها فى فصل الشتاء، أمازحها وأجذبه قليلا عن رأسها فتردنى برفق، أسألها إن كانت تطلب مساعدة فترد بالنفى، كنت أعرف أنها سترد بالنفى.
توصد الباب من خلفى ورائحة حساء الديك الرومى تتسرب من شقتها وتملأ مدخل العمارة. تعمل بهمة لتجهيز طعام العشاء يفطر عليه أولادها الثلاثة وزوجها فور عودتهم من الصلاة. منذ أن اشتد عليها داء القلب لم تعد تقوى على الذهاب إلى قداس العيد مع أننى ما رأيت الإنجيل إلا مفتوحا على وسادتها وبجوار مقعدها الأثير فى الشرفة الزجاجية.
أنظر إلى عقارب الساعة لا يفصلها عن انتصاف الليل إلا عشر دقائق، وبعدها يسمع الجيران الجلبة المحببة لأولادها يصعدون السلم ركضا، ويقطعون سكون الليل بدوى البمب وضحكاتهم المجلجلة، ولا مانع أبدا من أن ينشد الإبن الأصغر إحدى ترانيم عيد الميلاد. بعد ثلاثة وأربعين يوما من الصيام عن اللحوم والألبان ترتفع إلى الذروة قيمة أول ملعقة من حساء الديك، ثم تتراجع المنفعة بالتدريج مع امتلاء البطون والإحساس بالشبع، هكذا تعلمنا من قانون تناقص الغلة.
جمعتنى بمدام ليلى علاقة أم بابنتها وأحببت جدا تفانيها فى خدمة أسرتها، أما أكثر ما أحببته فيها فهو تدينها الجميل. على لسانها دائما تجرى عبارات: يا عدرا يا أم النور، وباسم الصليب وإشارة الصليب، ونشكر ربنا، تقولها عندما تدعو لأحد، أو ترقى أحدا من عين الحسود، أو ترد على أحد يسألها عن صحتها والحال. «امرأة فاضلة مَنْ يجدها فإن ثمنها يفوق اللآلئ» هكذا يقول الكتاب المقدس.
باعدت الأيام بينى وبين جارتى المسيحية الجميلة وظللت زمنا طويلا أفتقدها بشدة، وكانت آخر مرة رأيتها فيها قبل سنوات فى قداس زوجها الراحل. هدها المرض، وغار الأخدودان العميقان فى خديها أكثر، وزادت انحناءة ظهرها. أودعتَ فى قبلتى على جبينها محبة سنوات العِشرة والجيرة والإخلاص، وأحكمتُ الشال الصوف الكاروهات حول رأسها وكتفيها، خشيت عليها من لفحة برد.
اليوم أحمد الله أننى لم أعد أسكن فى الشقة المقابلة لمدام ليلى حتى لا أرى قلقها المبَرَر على أولادها وأحفادها حتى يعودوا سالمين من قداس عيد الميلاد أدوه فى حراسة الأمن ووسط مسلمين طيبين. لن أستغرب أبدا إن وجدتها تفتح إنجيل يوحنا وتقرأ فيه:
«بل تأتى ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله» (2:16)
فمع كل المشاعر الدافئة التى أحاط بها بعض أبناء الوطن بعضهم الآخر، فإن شيئا لا يمحو الغصة فى حلق مدام ليلى وكل ليلى أخرى من أبناء الجذر المسيحى لهذا الشعب. فالمشاعر الدافئة تعزى وتواسى وتشد الأزر لكنها لا تصنع قرارا ولا توفر أمنا. جميل أن يحمى الوطنيون المخلصون الكنائس فى عيد الميلاد وربما فى عيد القيامة لكن ما بال باقى الأعياد والجُمع والآحاد؟ الأكثر إيلاما أن تشعر بأنك فى خطر وأنت تصلى، وكان الظن أن فى جو الصلاة كل الأمان.
إن الأمن هو مسئولية الدولة، كما هى مسئوليتها أن تجفف التربة التى تُخرج قتلة نجع حمادى والإسكندرية. ألا تقول شيئا وتفعل آخر، ألا يشوى مسئولوها جماعة الإخوان بسياط نقدهم لأن برنامجها لا يقبل مسيحيا رئيسا لمصر ولا يسألون أنفسهم أى منصب لأى مسيحى يقبلونه.
حمدا لله أننى لم أعد أسكن قبالة مدام ليلى وأنا أجد العيد يمر عليها خلوا من كل طقوس العيد، فلا شجرة ولا لبس جديد ولا حتى وليمة معتبرة. تختفى مظاهر البهجة ليس لأن الدولة غير قادرة، فى وجود تيار متشدد أقوى منها، على أن تحل معضلات العلاقة بين جذرى الوطن حول دور العبادة والزواج المختلط والتحريض المباشر، لكن لأن الدولة غير راغبة فى حل هذه المعضلات.
فعندما أرادت الدولة، ومع وجود التيار المتشدد القوى إياه، انتزعت للمرأة 64 مقعدا برلمانيا، ونعلم أن المرأة هى عدو هذا التيار اللدود، لكن الدولة صممت فدرست وأعدت وسدت الثغرات القانونية وهيأت الرأى العام ونفذت ما أرادت. فى غياب الديمقراطية لا يسأل الكل عن حقوقه هذا صحيح، لكن يوجد فرق بين إهدار حقوق المواطن فى دولة غير ديمقراطية، وإهدار حقوق المواطن لأنه يختلف عن دين الأغلبية.
لم أعد أسكن أمام مدام ليلى ولا هى حتى عادت تسكن شقتها، اتخذت لها مرقدا إلى جانب زوجها وتفرق شمل الأولاد. وهكذا سيمر عيد بعد عيد ويزحف النسيان على الذكريات المؤلمة والأحزان، وربما تتردد إحدى ترانيم عيد الميلاد التى تقول:
يا كنيسة افرحى إملى قلبك أغانى
بصلاتك اسهرى دا عريسك جاى تانى
لكن من المؤكد دون روح.