الأمم المتحدة:أشكال العنف ضد المرأة
جاء تقرير الأمم المتحدة الصادر هذا العام عن أشكال العنف المختلفة ضد المرأة حول العالم مثيراً للشجون والألم، وكاشفاً عن حجم الانتهاكات الصارخة التي تتعرض لها النساء حول العالم. ولم يأتي هذا التقرير محض اختلاقات وأوهام مكتبية ونظرية لا تمت للواقع المعيش بصلة، بقدر ما جاء عبر مسح عالمي شامل، وعبر مساهمة خبيرات دوليات في شؤون المرأة حول العالم، إضافة إلى مساهمة المؤسسات الحكومية الرسمية، والمؤسسات غير الحكومية بما فيها تلك المنظمات الدولية ذات الصفة عبر القومية. ويمكن القول أن التقرير قد شمل المحلي والقومي والإقليمي والدولي فيما يتعلق بأشكال العنف التتي تواجهها المرأة حول العالم.
ورغم هذا الجهد المسحي الشامل، فإن التقرير يؤكد على ضعف الحصول على البيانات الخاصة بالعنف الموجه ضد المرأة، ويؤكد على أهمية وضرورة توفير قاعدة بيانات عالمية تمكِّن من الوقوف على كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بالانتهاكات الموجهة ضد النساء حول العالم. إن الحصر الشامل والكلي لكل هذه الأشكال العنيفة الموجهة ضد المرأة يساعد على كشف الأشكال الخفية غير المعلنة من العنف الموجه ضد النساء، الأمر الذي يساعد فيما بعد على محاربة هذه الانتهاكات وإمكان مواجهتها قانونيا وسياسيا واجتماعيا.
يرى التقرير أن العنف الموجه ضد المرأة هو عنف قائم على أساس نوع الجنس، "وهو العنف الموجه ضد المرأة بسبب كونها امرأة، أو العنف الذي يمس المرأة على نحو جائر. ويشمل الأعمال التي تلحق ضرراً أو ألماً جسديا أو عقليا أو جنسيا بها، والتهديد بهذه الأعمال، والإكراه، وسائر أشكال الحرمان من الحرية." وهو يرى أن العنف ضد المرأة لا يقتصر على ثقافة معينة أو إقليم معين أو بلد بعينه، فالعنف ضد المرأة موجود في كل مكان تقريباً، لكن درجة شدته، ومدى قبوله، تختلف من مجتمع لآخر ومن سياق اجتماعي لآخر.
ويتأثر العنف ضد المرأة في التحليل الأخير بدرجة تقدم أو تخلف السياق الاجتماعي الذي توجد فيه. فالعنف يزداد حيث تواجه المرأة مستويات معيشية متدنية، والعكس أيضاًَ صحيح. من هنا يمكن القول بأن العنف ضد المرأة لا يرتبط بعامل مجتمعي وحيد، بقدر ما يرتبط بشبكة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والدينية والعرقية والإثنية، تتشابك فيما بينها لتولد تلك الأسباب المؤدية للعنف ضد النساء والداعمة له. وهذا ما يؤدي إلى تعدد المنظورات المختلفة التي يجب أن تشترك في الكشف عن شبكة العنف ضد المرأة مثل الدراسات النسوية، وعلم الجريمة، والتنمية، وحقوق الإنسان، والصحة العامة، وعلى الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ، والدين، والبحوث القانونية والتشريعية.
إن العنف ضد النساء ليس شيئاً عابراً يتم التعامل معه بتبسيط مخل، فالعنف ضد المرأة هو عنف شامل ضد المجتمع، وهو شيئٌ خطير وينذر بهلاك المجتمع ذاته على المدى البعيد، لذلك كان من اللازم توجيه كافة التخصصات والمنظورات البحثية المختلفة للوقوف على مواطن العيب المؤدية لارتفاع نسبة ممارسة العنف ضد النساء في أماكن عديدة من العالم. ولعل ذلك هو ما جعل التقرير يؤكد على ضرورة ربط العنف ضد النساء بمسألة انتهاك حقوق الإنسان؛ فإذا ما قبلت المجتمعات الإنسانية المرأة بوصفها عنصراً فاعلاً وهاماً فيها، وإذا ما تعاملت مع المرأة على أنها كائن إنساني مثلها في ذلك مثل الرجل ومثل الأبناء الذكور، فإن قضية العنف الموجه ضد المرأة سوف تنتقل من مجرد قضية تعاطف تجاه المرأة، إلى قضية مجتمعية ودولية يجب محاربتها لما لها من آثار سلبية على مسيرة المجتمعات الإنسانية بعامة.
كما أن المرأة في هذه الحالة، تصبح صاحبة قضية وصاحبة حقوق واضحة، لا يمُّن عليها أحد، ولا ينظر إليها أحد بعين العطف والإحسان. إضافة إلى ذلك فتحول مسألة العنف الموجه ضد المرأة من جانب العطف والتناول العابر إلى قضية حقوق إنسان يلقي على الدول المختلفة التي تتجاهل العنف الموجه ضد مواطنيها من النساء أعباءً جديدة، تتمثل في امكانية محاسبتها نظير هذا الإهمال وهذا التجاهل. لا تصبح المسألة هنا قضية تحسين أوضاع المرأة، والحد من مستويات العنف التي تواجهها، لكنها تتحول إلى قضية حقوق إنسان، ترتبط بالقوانين والأعراف الدولية، والجزاءات المحددة لمثل هذه الحالات من الانتهاكات والجرائم.
يرصد التقرير أشكالاً عديدة للعنف ضد المرأة في أماكن كثيرة من العالم يمكن اجمالها على النحو التالي:
يؤكد التقرير على وجود العنف داخل الأسرة، كأولى الوحدات التي تنشأ وتنمو فيها الأنثى. حيث يشير إلى الضرب، والأشكال الأخرى من العنف بين الشريكين الحميمين، بما في ذلك اغتصاب الزوجة، العنف الجنسي، العنف المتصل بالمهر، وأد البنات، الاعتداء الجنسي على الأطفال الإناث في الأسرة، ختان الإناث، الزواج القسري، العنف من غير الزوج، والعنف المرتكب ضد العاملات في المنزل.
كشفت الدراسات التي أجرتها منظمة الصحة العالمية على مجموعة من الدول المختلفة أن نسبة انتشار العنف البدني الذي يرتكبه شريك حميم في أى وقت من حياة المرأة يتراوح بين 13 في المائة و 61 في المائة. كما بينت دراسات وأد البنات في أستراليا، وإسرائيل، وجنوب أفريقيا، وكندا، والولايات المتحدة الأمريكية، أن ما يتراوح بين 40 و 70 في المائة من النساء اللائي قُتلن، قُتلن بأيدي أزواجهن أو أصدقائهن.
لايقف العنف فقط عند التهديد البدني والجسدي المباشر، حيث أشارت العديد من الدراسات على ممارسة العنف النفسي والعاطفي ضد المرأة في أماكن كثيرة من العالم، حيث وجدت دراسة منظمة الصحة العالمية المتعددة البلدان أن ما يتراوح بين 20 في المائة و 75 في المائة من النساء تعرضن لواحد أو أكثر من أعمال الإساءة العاطفية.
كشف التقرير عن الممارسات الواسعة المتعلقة بختان المرأة في أماكن عديدة من العالم، حيث يُقدر أن أكثر من 130 مليون بنت وإمرأة يعشن اليوم قد تعرضن لهذه العملية، معظمهن في إفريقيا وبعض بلدان الشرق الأوسط، كما أثبتت بعض الدراسات وجود هذه العملية في أوساط بعض الجاليات المهاجرة في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا.
لا يقف العنف الموجه ضد المرأة عند حدود الوحدات الصغرى مثل الأسرة، بل يتعداه إلى مستوى المجتمع المحلي المحيط، حيث تتعرض النساء لانتهاكات صارخة، تصب في النهاية في تعميق وضعية التمييز بين المرأة والرجل من ناحية، كما تدعم البنية الأبوية الذكورية المتسلطة من ناحية أخرى. يصبح العنف الموجه ضد المرأة سلوكاً يومياً معتادً يمارسه المجتمع ضدها، ويعيد هيكلته، ليصبح شيئاً عاديا، مستدجماً ضمن أطر البنيات الاجتماعية والثقافية والسياسية. تتعرض المرأة للعنف والتحرش الجنسي والاغتصاب في أماكن العمل، والأندية الرياضية، والمستشفيات، وغيرها من المؤسسات الاجتماعية الأخرى التي ترتادها.
إضافة إلى ذلك، أشار التقرير إلى العنف الذي تمارسه الدول ذاتها ضد النساء من خلال تحيز التشريعات والقوانين ضد المرأة وضد أوضاعها المعيشية، وأشكال العنف التي تواجهها. إضافة إلى ما يمكن أن يرتكبه مندوبوا الدول ذاتهم من عنف في الشوارع، وفي أوضاع الحجز، بما في ذلك العنف الجنسي، والاغتصاب، والتحرش الجنسي.
من الجوانب الهامة التي تناولها التقرير ما تتعرض له النساء اثناء الحروب والصراعات المسلحة، ومعلوم أن النساء والأطفال هما الفئتان اللاتان يدفعان ثمناً باهظاً في أوقات الحروب والصراعات من طرفي النزاع. ويقدر التقرير أن ما يترواح بين و امرأة في رواندا قد اغتُصبن أثناء عمليات الإبادة الجماعية في سنة 1994، وأن ما يتراوح بين 20000 و 50000 امرأة قد اغتُصبن في البوسنة من قبل القوات الصربية، وأن نحو امرأة وفتاة قد اغتُصبن أثناء الصراع المسلح في بنجلاديش في سنة 1971.
لا يقف التقرير فقط عند أشكال العنف المختلفة التي عرضنا لبعضها فيما سبق، لكنه يتعدى ذلك ليكشف عن العواقب والنتائج المختلفة الناجمة عن ممارسة العنف ضد المرأة. وهى عواقب ونتائج مخيفة تصب في تخلف المجتمع وتكريس فقره وتبعيته وتدهوره. يرى التقرير أن لممارسة العنف ضد النساء عواقب ونتائج وخيمة تتمثل في التدهور الصحي للمرأة، حيث تظهر على النساء المُعتدى عليهن أعراض اعتلال الصحة العقلية والجسدية، كما يكشف التقرير عن احتمال ميل المرأة التي تتعرض للعنف إلى تعاطي المخدرات وإدمان المشروبات الكحولية، والإقدام على الانتحار. كما أشار التقرير إلى العواقب البدنية الكثيرة الناجمة عن ممارسة العنف ضد المرأة مثل الإصابات بالكسور والحالات الصحية المزمنة، بما في ذلك الألم المزمن، واضطرابات المعدة والأمعاء.
كما أشار التقرير إلى الآثار الاجتماعية الناجمة عن العنف ضد المرأة، وانتقال هذه الآثار عبر الأجيال. ففي سري لانكا أدى النزاع المستمر إلى خلق ثقافة عنف ضد المرأة حدًّت من مشاركتها السياسية. كما أشارت العديد من الدراسات إلى أن العنف ضد المرأة في الأسرة والعنف الاجتماعي متصلان اتصالاً وثيقاً.
ولم يهمل التقرير أيضاً التكلفة الاقتصادية للعنف ضد المرأة. فالعنف ضد النساء يؤدي إلى افقارهن. كما أنه يحمل ميزانية الدولة بمصاريف كان من الممكن الاستغناء عنها لو لم توجد هذه الممارسات العنيفة ضد النساء. وعلينا هنا أن نذكر تكاليف نظم العدالة ومراكز الشرطة والمحاكم والخدمات الصحية والإسكان والخدمات الاجتماعية المختلفة التي تُقدم لمن تعرضن للعنف. كل هذه المصروفات تُضاف إلى ميزانية الدول لإصلاح ما أوجدته الممارسات العنيفة ضد النساء. ففي كندا على سبيل المثال قُدرت مجموع تكاليف النفقات المباشرة المرتبطة بالعنف ضد النساء بأكثر من مليار دولار، وفي المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية قُدرت التكاليف بمبلغ 23 مليار جنيه استرليني في السنة أو 440 جنيهاً لكل فرد من السكان. وهى مبالغ فلكية وهائلة تكشف عن حجم الخسائر الهائلة الناجمة عن تلك الممارسات العنيفة ضد النساء حول العالم.
إن المطلوب في النهاية وقفة عالمية رادعة، تكشف عن كافة أشكال العنف الممارس ضد النساء، كما تضع التشريعات اللازمة والحاسمة للمواجهة. كما أنه من الضروري أن تصبح قضية العنف الموجه ضد المرأة قضية حقوق إنسان ينضم لها الرجال، كما تنضم لها كافة مؤسسات المجتمع، من أجل وقف العنف ضد النساء في كل مكان.