"مؤتمر أولويات وآليات الاصلاح في العالم العربي": التوافق على حل خلاّق لمشكلة علاقة الدين بالدولة
Source:
لجان إحياء المجتمع المدني في سورية النص الحرفي للتقرير الختامي عن "مؤتمر اولويات وآليات الاصلاح في العالم العربي" الذي دعت اليه ونظمته في القاهرة "المنظمة المصرية لحقوق الانسان" ومجلة "السياسة الدولية" و"مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان" وشارك فيه عدد كبير من المثقفين والناشطين السياسيين المصريين والعرب:
بدعوة من مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، والمنظمة المصرية لحقوق الانسان، ومجلة السياسة الدولية، انعقد مؤتمر اولويات وآليات الاصلاح في العالم العربي، في القاهرة في الفترة 5-7 تموز ،2004 بحضور نحو 100 مشاركة ومشارك من 15 دولة عربية.
ناقش المؤتمر المبادرات الدولية للاصلاح في العالم العربي، وما توصلت اليه القمم الدولية الثلاث (قمة الثماني، قمة الاتحاد الاوروبي - الولايات المتحدة، وقمة الحلف الاطلسي) التي انعقدت خلال الشهر الماضي. كما ناقش وثيقة الاسكندرية ومبادرة "الاستقلال الثاني" للاصلاح السياسي في العالم العربي، وما توصلت اليه قمة ملوك ورؤساء دول الجامعة العربية بخصوص قضية الاصلاح، وذرائع الحكومات العربية لرفضه، وتقييم منظمات حقوق الانسان في العالم العربي لنتائج القمة. كما ناقش المؤتمر رؤى واولويات الاصلاح السياسي في ثماني دول عربية، هي مصر وسوريا وتونس والاردن والبحرين والسعودية والعراق والجزائر. كما توقف عند مسار التجربة المغربية في الاصلاح.
من خلال اوراق ومداولات المؤتمر يمكن استنتاج المستخلصات الرئيسية التالية:
اولا: رغم التحفظ على بعض الدوافع الكامنة خلف المبادرات الدولية للاصلاح في العالم العربي، الا انه يلاحظ انها اشتملت على عدد من اهم مطالب الاصلاح التي تضمنتها برامج المصلحين والحركات السياسية والمنظمات الحقوقية في العالم العربي، وتصلح الرؤى المتضمنة في مبادرة مجموعة الثماني كبداية للمناقشة والحوار، على ان تتسع للمجتمع المدني في العالم العربي كشريك متكافىء في هذه الشراكة، باعتباره طرفا اصلا في اية عملية اصلاح جادة في كل دولة.
لا شك في ان هناك مصلحة مشتركة في مناهضة ايديولوجيات التعصب الديني والعرقي وثقافة العنف والتمييز والكراهية على الجانبين. لقد جرى اختطاف الاسلام من جانب اقليات ضئيلة في العالم العربي والاسلامي لتبرير اعمال العنف والارهاب ولتأسيس دول دينية وتمييزية، مثلما جرى توظيف المسيحية واليهودية والتقاليد الدينية والثقافية الكبرى في العالم من فئات وتنظيمات تروج ايضا للعنف وثقافة الكراهية والتمييز.
من اهم ايجابيات المبادرات الدولية للاصلاح، انها قد دفعت الحكومات العربية - التي لا تبالي بمطالب الرأي العام الوطني بالاصلاح في بلادها - الى الاهتمام بقضية الاصلاح، حتى لو اقتصر الامر على الحديث عنها، وحتى لو كان خطابها موجها بالاساس للمجتمع الدولي. فللمرة الاولى في تاريخ اجتماعات قمم ملوك ورؤساء دول الجامعة العربية فرضت قضية الاصلاح والديموقراطية وحقوق الانسان على جدول الاعمال، كما بادرت حكومتا مصر واليمن الى عقد مؤتمرين عن الاصلاح في صنعاء في كانون الثاني الماضي وفي الاسكندرية في آذار الماضي.
ثانيا: تتحمل الحكومات العربية مجتمعة ومنفردة المسؤولية الاخلاقية والسياسية عن الاهانة الماثلة في حقيقة ان المجتمع الدولي صار مضطرا للتقدم بمبادرات اصلاحية الى المنطقة، بسبب رفض هذه الحكومات الطويل للمبادرات الداخلية للاصلاح السياسي والتشريعي والدستوري والقضائي ولمكافحة الفساد والفقر، والذي طرحته القوى الديموقراطية والمستنيرة في العالم العربي منذ هزيمة .1967
ثالثا: ان تلك المسؤولية الجماعية عن التأخر الشديد في الاصلاح السياسي والدستوري ظهرت بصورة مقلقة في قرارات مؤتمر القمة العربي الاخير في تونس، ودليلا جديدا على ان غالبية الحكومات العربية ترفض الاصلاح بصرف النظر عن مصدر المطالبة به، من الداخل ام من الخارج. فقد اكتفت القمة ببيان نيات انشائي لا يتضمن اي التزامات عملية او ترتيبات زمنية، فضلا عن ربطها الاصلاح بحل القضية الفلسطينية. في الوقت نفسه الذي واصل عدد من الحكومات العربية الموقعة على البيان قمع الحريات والتحرش بمنظمات حقوق الانسان وبالمصلحين.
رابعا: ان انهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية المحتلة والاعتراف الكامل بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، هي مطالب اساسية تعزز قوة الدفع نحو الاصلاح السياسي والدستوري في العالم العربي وقوى الاعتدال وتكبح الميل للتشدد الديني والتطرف والعنف السياسي في العالم العربي، لكن لا يمكن توظيف معاناة الشعب الفلسطيني لتعطيل الشروع في الاصلاح او لتبرير انتهاكات حقوق الانسان.
خامسا: ان رغبة الحكومات العربية في تفادي ضغوط المجتمع الدولي من اجل الاصلاح، وجدت جانبا من تعبيرها في مسارعة بعضها لعقد مؤتمرات حول الاصلاح. واذا كان من المنطقي ان تعقد منظمات المجتمع المدني المؤتمرات من اجل تعبئة رأي عام ضاغط على الحكومات من اجل الاصلاح، فان المؤتمرات التي رعتها بعض الحكومات كان من المفترض ان تتقدم ببرامج وخطط عمل محددة بتوقيتات زمنية لتطبيق مطالب الاصلاح المرفوعة من قبل القوى السياسية والمجتمع المدني في العالم العربي على مدى عقود عدة.
سيناريوات الاصلاح
سادسا: ان شعوب العالم العربي في مأزق صعب، فهي:
1- تتشكك في دوافع المبادرات الدولية للاصلاح وجديتها.
2- تدرك ان حكوماتها ترفض الاصلاح، باعتباره تهديدا للسلطات المطلقة التي تتمتع بها، وتنفرد بمقتضاها في التصرف في كل شؤون الاوطان دون حسيب او رقيب.
3- لا تملك القوة اللازمة لاجبار حكوماتها على الشروع في الاصلاح، نتيجة انقسام نخبها حول قضايا رئيسية.
سابعا: في هذا السياق تبرز اربعة مسارات نظرية / افتراضية لعملية الاصلاح:
1- اصلاح مفروض من الخارج على نمط ما حدث في العراق. غير ان النتائج حتى الآن تبدو مخيبة لآمال اكثر المتفائلين، حتى مع التسليم بمدى قسوة الظروف السابقة على الاحتلال. كما ان الطابع الاستثنائي لوحشية النظام الدموي السابق في العراق مقارنة بغيره من النظم الاستبدادية في العالم العربي، تستبعد بالضرورة احتمالات تعميم هذا السيناريو.
2- سيناريو ثوري، وهو تاليا لا ينطبق عليه تعبير الاصلاح. ولكن الاهم هو ان مقومات هذا السيناريو لا تتوافر في العالم العربي، فليس هناك مؤشرات بعد على وجود حركة ديموقراطية قادرة على ان تفرض اهدافها من خلال ثورة شعبية، او تحالف مدني عسكري.
3- اصلاح من اعلى، اقتداء بالنموذج المغربي في الاصلاح التدريجي - الذي ما زال ورغم بعض التراجعات من وقت لآخر - يقوم على قاعدة توافق عريض بين النظام الملكي والاحزاب السياسية الرئيسة وقطاع مهم من مؤسسات المجتمع المدني، مع استعداد النظام السياسي للاعتراف بجرائم الماضي.
غير ان هناك عددا محدودا للغاية من الحكومات العربية المؤهلة لان تختار هذا السيناريو. ولا شك في ان الاستعداد لنهج هذا الطريق ومعدل السير فيه، لن يتوقف فقط على طبيعة الارادة السياسية للنظم الحاكمة، ولكن ايضا على مدى ديناميكية المجتمع المدني والاحزاب السياسية في كل دولة، وطبيعة تفاعلات المجتمع الدولي مع تلك الدول.
4- سيناريو المجتمع المدني، وهو يتطلب ان تنمو قوى المجتمع المدني والاحزاب السياسية في اي دولة، الى مستوى يمكنها من احداث تطوير نوعي في علاقات القوى مع النخب الحاكمة، بما قد يتضمنه ذلك من احتمال شق النخب الحاكمة ذاتها، وانحياز اقسام منها لنهج الاصلاح.
ورغم ان هذا السيناريو يعتمد بشكل كلي على طابع التفاعلات الداخلية، الا ان طبيعة تفاعلات المجتمع الدولي مع كل من النظم الحاكمة والمجتمع المدني في كل دولة، سيلعب دورا حيويا في مدى تهيئة البيئة المناسبة لهذا المسار ومعدل السير فيه.
بالطبع ليس هناك سور صيني يفصل بين السيناريوات الافتراضية الثلاثة الاخيرة، فالثالث قد يقود الى الرابع، والرابع قد يقود الى الثالث او الثاني. وقد يؤدي انتكاس اي من السيناريوات الثلاثة الاخيرة في ظروف خاصة، الى فرض السيناريو الاول.
متطلبات الاصلاح من الداخل
ثامنا: ان السيناريو الافتراضي الرابع للاصلاح من الداخل يتطلب:
1- توافر ارادة سياسية صلبة للنخب السياسية والثقافية، وتوافقا على الاولوية القاطعة لقضية الاصلاح السياسي على جدول اعمالها، وعلى حساب اية قضايا اخرى مهما بلغت اهميتها.
2- التوصل الى حل توافقي خلاق لاشكالية علاقة الدين والدولة، دون ان يخل ذلك بجوهر قضية الاصلاح، او يقود لاحلال نظام استبدادي محل آخر.
3- التوافق حول برنامج حد ادنى للاصلاح، في كل دولة.
4- توافر ارادة سياسية للاصلاح من جانب النخبة الحاكمة، او على الاقل عدم اللجوء الى العنف لقمع حركة الاصلاح.
اولويات الاصلاح
تاسعا: لم يكن من اهداف هذا المؤتمر اعادة تحديد كل مطالب الاصلاح السياسي، فقد سبق لوثيقة "الاستقلال الثاني" ان فصلتها بشكل شامل. ان اختلاف المعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية بين الدول العربية يمكن ان يقترح اولويات خاصة بكل دولة او مجموعة من الدول. ان التركيز على اولويات معينة في مرحلة محددة، لا يعني بالطبع التقليل من شأن بقية عناصر برامج الاصلاح السياسي الشامل.
لقد اوضحت مداولات المؤتمر ان الاولوية في مطالب الاصلاح السياسي في النظم الجمهورية هي لتداول السلطة، ووضع حد زمني اقصى لفترات تولي رئاسة الجمهورية، وان الاولوية في النظم الملكية هي للتحول الى نظم ملكية دستورية. وان الاولوية في مصر هي للتحول الى جمهورية برلمانية، وفي سوريا لارساء دولة القانون، وفي السعودية لاصلاح المؤسسة الدينية وفصلها عن السلطة السياسية. كما ان الاصلاح الدستوري الشامل واعمال مبادىء المساواة والمواطنة وحقوق النساء تشكل قضية مركزية في كل الدول العربية.
ان الرهان على آليات النمو الذاتي وقوى الاصلاح في كل دولة في العالم العربي، يفترض بالضرورة انتقاء اولويات محددة، هي التي يمكن ان يساعد التركيز عليها على تنمية هذه القوى، وخلق افضل بيئة ممكنة للتفاعل الخلاق بين اطرافها، وبينها وبين النخب الحاكمة والمجتمع الدولي، وبما يؤدي في مرحلة ما لاحداث تعديل جوهري في المعادلة السياسية السائدة / الحاكمة.
وفي هذا السياق يبرز عدد من الاولويات المشتركة هي:
1- اطلاق حرية امتلاك وسائل الاعلام وتدفق المعلومات.
2- اطلاق حرية انشاء وادارة الاحزاب السياسية والنقابات والمنظمات غيرالحكومية.
3- اطلاق حريات التعبير وخاصة الحق في التجمع والاجتماع.
4- رفع حالة الطوارىء - حيثما تكون سارية - والغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية.
آليات الاصلاح
عاشراً: لقد اوضحت مداولات المؤتمر مدى محدودية الخيارات بالنسبة الى آليات الاصلاح، على النحو الذي يشير اليه التشخيص الموجز لمعضلة الوضع الحالي في العالم العربي (انظر سادسا)، هذه الخيارات هي:
1- محليا: ابداع اطار تنظيمي خلاق لقوى الاصلاح في كل دولة، يكون ذا طبيعة ائتلافية مرنة، بحيث يتسع للاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والشخصيات العامة التي تتوافق على برنامج حد ادنى للاصلاح. ويمكن ان يتسع هذا الاطار لاطراف وعناصر من النخب الحاكمة عندما يكون ذلك ممكنا.
2- اقليمياً: انشاء منبر اقليمي في العالم العربي للحوار وتبادل الخبرات بين قوى الاصلاح من احزاب سياسية ومؤسسات مجتمع مدني وشخصيات عامة.
3- دوليا: تطوير هيكل الحوار المقترح بين المجتمع الدولي والحكومات العربية الراغبة في الاصلاح، ليصير مثلثاً متساوي الاضلاع، بانضمام مؤسسات المجتمع المدني كشريك متكافىء في هذا الحوار.
4- روافع مساعدة:
- اضطلاع المجتمع المدني بانشاء مرصد لمراقبة تطور السير في الاصلاح في الدول العربية وقياس معدله.
- اعداد توثيق شامل للمبادرات الاصلاحية التي طرحتها القوى الديموقراطية في العالم العربي منذ هزيمة حزيران ،1967 للبرهنة على مدى العنت والبطش الذي واجه هذه المطالب والمبادرين بها قبل وقت طويل من طرح المبادرات الدولية للاصلاح. ولكي يكون ذلك التوثيق مرجعا للقوى السياسية والمجتمع المدني في اعداد برامجها المعاصرة.
ان تخلي مؤتمر القمة العربي الاخير عن مسؤولياته في الالتزام بالاصلاح، يزيدنا اصرارا على ان الاصلاح هو مصلحة مشتركة لجميع الشعوب العربية. ويدعو المؤتمر جميع القوى المدنية من جمعيات اهلية ونقابات والاحزاب السياسية ومنابر الفكر والرأي وغيرها من المؤسسات الديموقراطية، لبناء وتوسيع شبكات، وتبني فاعليات مشتركة، لتعزيز الكفاح من اجل الديموقراطية والحكم الصالح وحقوق الانسان، والتلامس مع الحركات الاجتماعية والجماهيرية وتعزيز النضال المشترك من اجل تلك الاهداف.
النهار 13/7/2004
ناقش المؤتمر المبادرات الدولية للاصلاح في العالم العربي، وما توصلت اليه القمم الدولية الثلاث (قمة الثماني، قمة الاتحاد الاوروبي - الولايات المتحدة، وقمة الحلف الاطلسي) التي انعقدت خلال الشهر الماضي. كما ناقش وثيقة الاسكندرية ومبادرة "الاستقلال الثاني" للاصلاح السياسي في العالم العربي، وما توصلت اليه قمة ملوك ورؤساء دول الجامعة العربية بخصوص قضية الاصلاح، وذرائع الحكومات العربية لرفضه، وتقييم منظمات حقوق الانسان في العالم العربي لنتائج القمة. كما ناقش المؤتمر رؤى واولويات الاصلاح السياسي في ثماني دول عربية، هي مصر وسوريا وتونس والاردن والبحرين والسعودية والعراق والجزائر. كما توقف عند مسار التجربة المغربية في الاصلاح.
من خلال اوراق ومداولات المؤتمر يمكن استنتاج المستخلصات الرئيسية التالية:
اولا: رغم التحفظ على بعض الدوافع الكامنة خلف المبادرات الدولية للاصلاح في العالم العربي، الا انه يلاحظ انها اشتملت على عدد من اهم مطالب الاصلاح التي تضمنتها برامج المصلحين والحركات السياسية والمنظمات الحقوقية في العالم العربي، وتصلح الرؤى المتضمنة في مبادرة مجموعة الثماني كبداية للمناقشة والحوار، على ان تتسع للمجتمع المدني في العالم العربي كشريك متكافىء في هذه الشراكة، باعتباره طرفا اصلا في اية عملية اصلاح جادة في كل دولة.
لا شك في ان هناك مصلحة مشتركة في مناهضة ايديولوجيات التعصب الديني والعرقي وثقافة العنف والتمييز والكراهية على الجانبين. لقد جرى اختطاف الاسلام من جانب اقليات ضئيلة في العالم العربي والاسلامي لتبرير اعمال العنف والارهاب ولتأسيس دول دينية وتمييزية، مثلما جرى توظيف المسيحية واليهودية والتقاليد الدينية والثقافية الكبرى في العالم من فئات وتنظيمات تروج ايضا للعنف وثقافة الكراهية والتمييز.
من اهم ايجابيات المبادرات الدولية للاصلاح، انها قد دفعت الحكومات العربية - التي لا تبالي بمطالب الرأي العام الوطني بالاصلاح في بلادها - الى الاهتمام بقضية الاصلاح، حتى لو اقتصر الامر على الحديث عنها، وحتى لو كان خطابها موجها بالاساس للمجتمع الدولي. فللمرة الاولى في تاريخ اجتماعات قمم ملوك ورؤساء دول الجامعة العربية فرضت قضية الاصلاح والديموقراطية وحقوق الانسان على جدول الاعمال، كما بادرت حكومتا مصر واليمن الى عقد مؤتمرين عن الاصلاح في صنعاء في كانون الثاني الماضي وفي الاسكندرية في آذار الماضي.
ثانيا: تتحمل الحكومات العربية مجتمعة ومنفردة المسؤولية الاخلاقية والسياسية عن الاهانة الماثلة في حقيقة ان المجتمع الدولي صار مضطرا للتقدم بمبادرات اصلاحية الى المنطقة، بسبب رفض هذه الحكومات الطويل للمبادرات الداخلية للاصلاح السياسي والتشريعي والدستوري والقضائي ولمكافحة الفساد والفقر، والذي طرحته القوى الديموقراطية والمستنيرة في العالم العربي منذ هزيمة .1967
ثالثا: ان تلك المسؤولية الجماعية عن التأخر الشديد في الاصلاح السياسي والدستوري ظهرت بصورة مقلقة في قرارات مؤتمر القمة العربي الاخير في تونس، ودليلا جديدا على ان غالبية الحكومات العربية ترفض الاصلاح بصرف النظر عن مصدر المطالبة به، من الداخل ام من الخارج. فقد اكتفت القمة ببيان نيات انشائي لا يتضمن اي التزامات عملية او ترتيبات زمنية، فضلا عن ربطها الاصلاح بحل القضية الفلسطينية. في الوقت نفسه الذي واصل عدد من الحكومات العربية الموقعة على البيان قمع الحريات والتحرش بمنظمات حقوق الانسان وبالمصلحين.
رابعا: ان انهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية المحتلة والاعتراف الكامل بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، هي مطالب اساسية تعزز قوة الدفع نحو الاصلاح السياسي والدستوري في العالم العربي وقوى الاعتدال وتكبح الميل للتشدد الديني والتطرف والعنف السياسي في العالم العربي، لكن لا يمكن توظيف معاناة الشعب الفلسطيني لتعطيل الشروع في الاصلاح او لتبرير انتهاكات حقوق الانسان.
خامسا: ان رغبة الحكومات العربية في تفادي ضغوط المجتمع الدولي من اجل الاصلاح، وجدت جانبا من تعبيرها في مسارعة بعضها لعقد مؤتمرات حول الاصلاح. واذا كان من المنطقي ان تعقد منظمات المجتمع المدني المؤتمرات من اجل تعبئة رأي عام ضاغط على الحكومات من اجل الاصلاح، فان المؤتمرات التي رعتها بعض الحكومات كان من المفترض ان تتقدم ببرامج وخطط عمل محددة بتوقيتات زمنية لتطبيق مطالب الاصلاح المرفوعة من قبل القوى السياسية والمجتمع المدني في العالم العربي على مدى عقود عدة.
سيناريوات الاصلاح
سادسا: ان شعوب العالم العربي في مأزق صعب، فهي:
1- تتشكك في دوافع المبادرات الدولية للاصلاح وجديتها.
2- تدرك ان حكوماتها ترفض الاصلاح، باعتباره تهديدا للسلطات المطلقة التي تتمتع بها، وتنفرد بمقتضاها في التصرف في كل شؤون الاوطان دون حسيب او رقيب.
3- لا تملك القوة اللازمة لاجبار حكوماتها على الشروع في الاصلاح، نتيجة انقسام نخبها حول قضايا رئيسية.
سابعا: في هذا السياق تبرز اربعة مسارات نظرية / افتراضية لعملية الاصلاح:
1- اصلاح مفروض من الخارج على نمط ما حدث في العراق. غير ان النتائج حتى الآن تبدو مخيبة لآمال اكثر المتفائلين، حتى مع التسليم بمدى قسوة الظروف السابقة على الاحتلال. كما ان الطابع الاستثنائي لوحشية النظام الدموي السابق في العراق مقارنة بغيره من النظم الاستبدادية في العالم العربي، تستبعد بالضرورة احتمالات تعميم هذا السيناريو.
2- سيناريو ثوري، وهو تاليا لا ينطبق عليه تعبير الاصلاح. ولكن الاهم هو ان مقومات هذا السيناريو لا تتوافر في العالم العربي، فليس هناك مؤشرات بعد على وجود حركة ديموقراطية قادرة على ان تفرض اهدافها من خلال ثورة شعبية، او تحالف مدني عسكري.
3- اصلاح من اعلى، اقتداء بالنموذج المغربي في الاصلاح التدريجي - الذي ما زال ورغم بعض التراجعات من وقت لآخر - يقوم على قاعدة توافق عريض بين النظام الملكي والاحزاب السياسية الرئيسة وقطاع مهم من مؤسسات المجتمع المدني، مع استعداد النظام السياسي للاعتراف بجرائم الماضي.
غير ان هناك عددا محدودا للغاية من الحكومات العربية المؤهلة لان تختار هذا السيناريو. ولا شك في ان الاستعداد لنهج هذا الطريق ومعدل السير فيه، لن يتوقف فقط على طبيعة الارادة السياسية للنظم الحاكمة، ولكن ايضا على مدى ديناميكية المجتمع المدني والاحزاب السياسية في كل دولة، وطبيعة تفاعلات المجتمع الدولي مع تلك الدول.
4- سيناريو المجتمع المدني، وهو يتطلب ان تنمو قوى المجتمع المدني والاحزاب السياسية في اي دولة، الى مستوى يمكنها من احداث تطوير نوعي في علاقات القوى مع النخب الحاكمة، بما قد يتضمنه ذلك من احتمال شق النخب الحاكمة ذاتها، وانحياز اقسام منها لنهج الاصلاح.
ورغم ان هذا السيناريو يعتمد بشكل كلي على طابع التفاعلات الداخلية، الا ان طبيعة تفاعلات المجتمع الدولي مع كل من النظم الحاكمة والمجتمع المدني في كل دولة، سيلعب دورا حيويا في مدى تهيئة البيئة المناسبة لهذا المسار ومعدل السير فيه.
بالطبع ليس هناك سور صيني يفصل بين السيناريوات الافتراضية الثلاثة الاخيرة، فالثالث قد يقود الى الرابع، والرابع قد يقود الى الثالث او الثاني. وقد يؤدي انتكاس اي من السيناريوات الثلاثة الاخيرة في ظروف خاصة، الى فرض السيناريو الاول.
متطلبات الاصلاح من الداخل
ثامنا: ان السيناريو الافتراضي الرابع للاصلاح من الداخل يتطلب:
1- توافر ارادة سياسية صلبة للنخب السياسية والثقافية، وتوافقا على الاولوية القاطعة لقضية الاصلاح السياسي على جدول اعمالها، وعلى حساب اية قضايا اخرى مهما بلغت اهميتها.
2- التوصل الى حل توافقي خلاق لاشكالية علاقة الدين والدولة، دون ان يخل ذلك بجوهر قضية الاصلاح، او يقود لاحلال نظام استبدادي محل آخر.
3- التوافق حول برنامج حد ادنى للاصلاح، في كل دولة.
4- توافر ارادة سياسية للاصلاح من جانب النخبة الحاكمة، او على الاقل عدم اللجوء الى العنف لقمع حركة الاصلاح.
اولويات الاصلاح
تاسعا: لم يكن من اهداف هذا المؤتمر اعادة تحديد كل مطالب الاصلاح السياسي، فقد سبق لوثيقة "الاستقلال الثاني" ان فصلتها بشكل شامل. ان اختلاف المعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية بين الدول العربية يمكن ان يقترح اولويات خاصة بكل دولة او مجموعة من الدول. ان التركيز على اولويات معينة في مرحلة محددة، لا يعني بالطبع التقليل من شأن بقية عناصر برامج الاصلاح السياسي الشامل.
لقد اوضحت مداولات المؤتمر ان الاولوية في مطالب الاصلاح السياسي في النظم الجمهورية هي لتداول السلطة، ووضع حد زمني اقصى لفترات تولي رئاسة الجمهورية، وان الاولوية في النظم الملكية هي للتحول الى نظم ملكية دستورية. وان الاولوية في مصر هي للتحول الى جمهورية برلمانية، وفي سوريا لارساء دولة القانون، وفي السعودية لاصلاح المؤسسة الدينية وفصلها عن السلطة السياسية. كما ان الاصلاح الدستوري الشامل واعمال مبادىء المساواة والمواطنة وحقوق النساء تشكل قضية مركزية في كل الدول العربية.
ان الرهان على آليات النمو الذاتي وقوى الاصلاح في كل دولة في العالم العربي، يفترض بالضرورة انتقاء اولويات محددة، هي التي يمكن ان يساعد التركيز عليها على تنمية هذه القوى، وخلق افضل بيئة ممكنة للتفاعل الخلاق بين اطرافها، وبينها وبين النخب الحاكمة والمجتمع الدولي، وبما يؤدي في مرحلة ما لاحداث تعديل جوهري في المعادلة السياسية السائدة / الحاكمة.
وفي هذا السياق يبرز عدد من الاولويات المشتركة هي:
1- اطلاق حرية امتلاك وسائل الاعلام وتدفق المعلومات.
2- اطلاق حرية انشاء وادارة الاحزاب السياسية والنقابات والمنظمات غيرالحكومية.
3- اطلاق حريات التعبير وخاصة الحق في التجمع والاجتماع.
4- رفع حالة الطوارىء - حيثما تكون سارية - والغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية.
آليات الاصلاح
عاشراً: لقد اوضحت مداولات المؤتمر مدى محدودية الخيارات بالنسبة الى آليات الاصلاح، على النحو الذي يشير اليه التشخيص الموجز لمعضلة الوضع الحالي في العالم العربي (انظر سادسا)، هذه الخيارات هي:
1- محليا: ابداع اطار تنظيمي خلاق لقوى الاصلاح في كل دولة، يكون ذا طبيعة ائتلافية مرنة، بحيث يتسع للاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والشخصيات العامة التي تتوافق على برنامج حد ادنى للاصلاح. ويمكن ان يتسع هذا الاطار لاطراف وعناصر من النخب الحاكمة عندما يكون ذلك ممكنا.
2- اقليمياً: انشاء منبر اقليمي في العالم العربي للحوار وتبادل الخبرات بين قوى الاصلاح من احزاب سياسية ومؤسسات مجتمع مدني وشخصيات عامة.
3- دوليا: تطوير هيكل الحوار المقترح بين المجتمع الدولي والحكومات العربية الراغبة في الاصلاح، ليصير مثلثاً متساوي الاضلاع، بانضمام مؤسسات المجتمع المدني كشريك متكافىء في هذا الحوار.
4- روافع مساعدة:
- اضطلاع المجتمع المدني بانشاء مرصد لمراقبة تطور السير في الاصلاح في الدول العربية وقياس معدله.
- اعداد توثيق شامل للمبادرات الاصلاحية التي طرحتها القوى الديموقراطية في العالم العربي منذ هزيمة حزيران ،1967 للبرهنة على مدى العنت والبطش الذي واجه هذه المطالب والمبادرين بها قبل وقت طويل من طرح المبادرات الدولية للاصلاح. ولكي يكون ذلك التوثيق مرجعا للقوى السياسية والمجتمع المدني في اعداد برامجها المعاصرة.
ان تخلي مؤتمر القمة العربي الاخير عن مسؤولياته في الالتزام بالاصلاح، يزيدنا اصرارا على ان الاصلاح هو مصلحة مشتركة لجميع الشعوب العربية. ويدعو المؤتمر جميع القوى المدنية من جمعيات اهلية ونقابات والاحزاب السياسية ومنابر الفكر والرأي وغيرها من المؤسسات الديموقراطية، لبناء وتوسيع شبكات، وتبني فاعليات مشتركة، لتعزيز الكفاح من اجل الديموقراطية والحكم الصالح وحقوق الانسان، والتلامس مع الحركات الاجتماعية والجماهيرية وتعزيز النضال المشترك من اجل تلك الاهداف.
النهار 13/7/2004