في الذكرى 58 لعيد الاستقلال:الذاكرة المنسيّة... للمقاومة التونسية
مناضلات كنّ حطبا لمعركة التحرّر الوطني...هكذا يشهد التاريخ لقائمة تكتظّ بأسماء تونسيات اخترن رُغما عن واقعهنّ الإجتماعي والإقتصادي الإنخراط في الحركة الوطنيّة أملا في استقلال تونس عن المستعمر الفرنسي.
تونس ـ «الشروق»: أسماء سحبون
تقول الكاتبة ليليا العبيدي في كتابها «جذور الحركة النسويّة في تونس» الصادر عام 1987 إنّ هؤلاء المناضلات المتمردات بدأن عملهنّ السرّي والعلني «ضمن دائرة الأماكن التي تعتبرها التقاليد «خاصة النساء» مثل الزّوي والحمامات والحفلات والمقابر. وفي هذه الأماكن حقّقن تكوينهنّ السياسي». كما جمعت الكاتبة روايات عن مسيرات مناضلات يُشْهد لهنّ في تاريخ الحركة الوطنيّة وهنّ بشيرة بن مراد ومبروكة القاسمي وخديجة رابح وشادليّة بوزقرّو لتصفها بالثريّة بالمعاني قائلة «انضمّت هؤلاء النسوة لحركة النضال من دون ان يعارضن ذلك الحس بالهويّة الثقافية للمجتمع الذي كنّ ينتمين إليه...ودفعن الثمن باهضا فهنّ ضحّين بشعرهنّ وبجواهرهنّ وبأدواة زينتهنّ وتعرّضن للإجهاض وللحوادث العابرة وفقدن ثروتهنّ او متن في سبيل تحقيق إرادتهنّ»...فيما يلي مقتطفات ممّا روته هؤلاء المناضلات :
خديجة رابح
انتقلت خديجة رابح للعيش في تونس عام 1930 قادمة من مدينة المطوية بقابس. واشتغلت في مجال الخياطة وحققت أرباحا في عملها الى حين قرارها الانضمام الى الحركة الوطنية. تقول «شَاوِرْت رَاجلِي قُلْتُله: «اسْمَعْ يَا وِلْد عَمِّي، توّا كِيفْ بَاشْ تْوَلِّي حَرَكَة وَطَنِيّة، رَانِي بَاشْ نْخُشْهَا، وسَامَحْنِي كَان متِتْ، وإلاَّ عِشْت، وإلاَّ تِرْبطِتْ، وإلاَّ اللِّي يِصِير عليّ...مَابِينَّا كَانْ السمَاحْ» قَاللِّي «مْسَامْحِكْ».
من هنا بدأت رحلتها مع النضال الوطني قناعة منها بان المرأة باستطاعتها رغم ظرف الإجتماعي والإقتصادي الذي كانت عليه ان تقدّم المساعدة من أجل استقلال تونس.
انخرطت خديجة في العمل الميداني من خلال المشاركة في المظاهرات وتنظيم المظاهرات وإخفاء الاسلحة والتشويش على المحاكمات. نجحت في جمع صندوقين من الذهب وثلاثة أكياس من الفضة لمساعدة ما أسمته بحزب الثعالبي.
التشويش على المحاكمات والعمل المسلّح
تتذكّر خديجة رابح وهي تقدّم شهادتها لليليا العبيدي كيف تم إعلامها بمحاكمة علالة البلهوان فلم تتردد في الخروج رفقة اثنتي عشرة امرأة وهنّ يضعن أغطية على رؤوسهنّ بمشاركة مئات من تلاميذ جامع الزيتونة لتعطيل السيارة التي كانت تحمله للمحاكمة الامر الذي انجر عنه مناوشات مع جنود الاحتلال سقط اثره قتلى وجرحى.
تتذكّر أيضاً كيف أسهمت في إنجاح اضراب عن استعمال «التراموي» لمدة ثلاثة ايام. «عَمَلْنا «قرَافْ» ثَلاَثَة ايَّام «التُرُمْفَايْ» مَا يَركَبْ فيه حَدْ. ثَلاَثَة أيَّامْ، كلْ مَحَطَّة فيها رَاجِلْ وزُوزْ نْسَاءْ. أَنَا عَسِّيتْ فِي القَصبَة. جَاءْ وَاحِد رَاكِبْ، خْشِينْ، لاَبِسْ قشّابيّة، قُلْتُله : «اهْبَط، اهْبَط»، مَا حَبِّشْ يَهْبط. يَاخِي كَرْكَرته مِنْ طرْبُوشْتَه، نِجِيبَه فِي الوَطَاءْ تَعَدّ «التُرنْفَاي» وخَلاّه. هَاكَ السّاعَة وَلِّينَا القَلْب قَلْب صِيدْ مَا عَادِشْ قَلْب إمْرَاة».
تتذكّر أيضاً كيف أسهمت في إخفاء الأسلحة لدعم المقاومة المسلّحة. كما كانت خديجة رابح تجمّع النساء للطبخ للمساجين وتحرّضهنّ على التظاهر وتقود المظاهرات فاصِيبَتْ وتمّ اعتقالها .
كما تعمّدت خديجة رابح ورفيقاتها فرض الحزن تحت الإستعمار فكنّ يحاولن التفاوض مع الأهالي من اجل تاجيل حفلات الزواج وتأجيل الاحتفال بالأعياد فكنّ يحرضن الأطفال ويزودهنّ بالحبر لرش كل من يرتدي ثيابا جديدة.
مبروكة القاسمي...
تزوجت المناضلة مبروكة القاسمي سنة 1925 في نفزة بولاية باجة واضطرت الى الهرب رفقة أسرتها الى منزل لها في الجبل حين اشتدت المعارك في الحرب العالمية الثانية وبعد ان خسر زوجها املاكه (مخزن ومقهى ومنزل) جراء القصف أصيب بالحمّى وتوفّي بعد سبعة ايَّام.
اضطرّت المناضلة إلى حلق شعرها والتوشّح بالسواد «بَاشْ مَا يَطْمَعْ فِيَّ حَدْ يْقُولْ عْزُوزَة» هكذا تقول في شهادتها.
ذات يوم قرّرت مبروكة القاسمي دعم زيارة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الى باجة فكانت بداية رحلتها مع معركة التحرر الوطني. تتذكّر بدورها يوم اقتحم جنود الاحتلال منزلها للتفتيش «لقَاوْ قِطْعة منْجِلْ، قَالُوا المَرَا عَنْدهَا السلاحْ» تتذكّر أيضاً عملية قطع أسلاك الهاتف في محطة القطار «عطِيتهُمْ زُوزْ تِسْترَاتْ ومْقَصّ، يمْشُو يقُصّو التلّ فِي الأنڤَارْ يْجُو الْجّدرمْيّة يبحثو فِيَّ «.
كانت تزود المساجين بالطعام وكانت لها علاقة بـ«الفلاّڤة» في جبل برقو وبعد نشر صورهم للبحث عنهم اختبؤوا في بيتي وكان من بينهم زوج ابنتي. كان «الفلاّقة» يتزودون بالطعام من المناضلة مبروكة القاسمي وكان تسترق الاستماع الى اجتماعاتهم «تمسكوا بالمبدأ...إنّه هكذا...إنّ بورقيبة...إِنَّكَ على علم...» دون ان يكون بين حديثهم مكان للمرأة.
بشيرة بن مراد
كانت تنوي تأسيس جمعية الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي وكان المستعمر ضد ظهور المرأة وضد تحركاتها بحسب شهادة بشيرة بن مراد. تقول إنّها تقدمت بطلب ترخيص للاتحاد النسائي عام 1936 ولم تحصل عليه سوى سنة 1951.
«كُنْتَ دِيمَة نْوَجّهْ عَلَى السِياسَة ضِدْ الاستِعْمَار، نفهِّمْ لِينْ نِقْنٍع. الاسْتِعْمار حَاربته عَلَى خَاطِرْ كُنَّا مَظْلُومِينْ، فلُوسْنَا وأَرَاضِينَا اسْتغلهُمْ كِيفْ مَا حَبْ وحقَرْنَا. احْنَا كِيفْ نِطْلعُوا فِي الأُوتُوبِيسْ يُخْزرُولْنَا باحْتِقَار.». انغمست بشيرة بن مراد في شرح قضيّة التحرر والتحريض عليها وقضيّة المرأة. وخلال الاجتماعات كان الفرنسيون يقتحمون مقر الاجتماع ويُكْسِرون ما به ويغلقوه. وأصبح المستعمر يمارس أسلوب التهديد والعزل تجاه أفراد عائلة بشيرة قصد ابعادها عن الاتحاد النسائي الاسلامي الذي أسسته.
انخرطت بشيرة في جمع التمويلات لارسالها لطلبة شمال إفريقيا بالخارج وتتذكر من بين الطلبة الذين ارسلت لهم التمويلات مزالي والمنجي سليمان وقائد السبسي.
وتؤكد بشيرة في شهادتها ان المرأة أصبحت أكثر استعدادا للمساهمة في الحركة الوطنيّة بعد احداث 9 أفريل 1938 «عمَلْنَا اجْتِمَاعَاتنَا وَقْتها والكَرْطُوشْ هَابِطْ والنِسَاء خَارْجة مَا رَجَّعْهُم شَيْء، الدّمْ يجْرِي والنّاسْ تِهِزْ فِي المُوتَى». وتؤكد ان الحالة السيئة التي كانت عليها تونس هي التي دفعت المرأة للخروج ومدّ يد المساعدة في معركة التحرّر الوطني.
شاذلية بوزقرّو
وُلِدت في 1917 وتجمعها علاقة قرابة بالزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. انخرطت في الحركة الوطنية بداية من سنة 1934 وهو تاريخ القاء القبض على «خالها» الحبيب بورقيبة ونفيه في برج «البُوفْ» وتاريخ تصعيد المستعمر الفرنسي لعمليات القمع والتنكيل بالوطنيين.
أدانت شاذلية بوزقرّو مشايخ الزيتونة الذين افتوا بشرعية التجنيس. وتتذكّر المناضلة بوزقرّو يوم تمّ اعتقالها ورفيقاتها في شهر رمضان فطلبن من العسكري ما يفطرن عليه فاقترح ان ياتيهنّ بـ«لمجات» فرفضن مرددات « فِي دِيننا نشُقُّوا الفَطْر عَلَى المَاءْ» حينها ردّ عليهنّ عسكري فرنسي يقطر حقدا «لو أدركت بورقيبة لاقتلعت أظافره من منابتها بعد أن أكون قد زرعت تحتها الدبابيس الحادة».
كانت رشيدة بوزقرّو تسعى في كل لحظة الى التشويش على السلطات الفرنسية وإقلاق راحتها فكانت مثلا حين تكون مارة في الطريق تحث ولدها على المناداة بحياة بورقيبة. وفي أوج غضبها ضد المستعمر الذي يستمر في محاكمة بورقيبة كانت تردد «إن تعدموا بورقيبة فسينط لكم كم من بورقيبة فكل الشعب التونسي بورقيبة فهل تنوون إعدام شعب بأسره».
تقول في شهادتها «كنّا في ذلك الوقت لا نرهب شيئا ولا نخشى اي عقاب فنحن قد آمنا أنّ من مات يموت شهيدا ومن عاش يعيش سعيدا. كان المستعمر لا يدّخر جهدا في ادخال الرعب في قلوبنا فتعمّد مرة جلب رجال موقوفين سالت دماؤهم بسبب الضرب والتعذيب فكان ردّي الإشادة بصمودهم وقلت للشرطة الاستعمارية إنّ دماء مواطنيكم هي التي حررت فرنسا من الاحتلال الالماني وها انتم تفعلون اليوم معنا ما فعله الألمان معكم بل انتم أكثر نذالة منهم».
شهادات مطوّلة اقتطفنا منها القليل علّنا نبرز الكثير من أمجاد وبطولات نساء المقاومة الوطنيّة في تونس. جدّاتنا أحياء أم شهيدات يلقّننا اليوم درسا في حب تونس القادمة على معركة تحرّر جديد.