الجزائر بعد عشرين سنة: الكلمات باقية أبداً

Source: 
Open Democracy

تميز العالم الحالي الذكرى العشرين لبداية الحرب التي أطلقها الجهاديون الجزائريون ضد الثقافة. و لم يلق من تولوا الكفاح الفكري ضد الأصولية في الجزائر، في تسعينيات القرن الماضي، سوى قليلاً من الدعم على المستوى الدولي. و في هذا المقال، توجه " كريمة بنُّون" التحية لأرواح من سقطوا في حرب إبادة الثقافة هذه و تدعو إلى الضرورة المستعجَلة للعمل على تفادي نسيانهم.

[8]

وصف والدي، عالم الأنثروبولوجيا الجزائري، " محفوظ بنُّون"، ، الاِغتيالات الجماعية للمثقفين التي أقدمت عليها في تسعينيات القرن الماضي، الجماعة الإسلامية المسلحة بـالـ " إبادة".

و قد أوضحتُ له، أنا طالبة كلية الحقوق، آنذاك، أن اِتفاقية منع جريمة الإبادة و المعاقبة عليها لا تحمي المنظمات السياسية أو الاِجتماعية. غير أنه اِنتهى بي الحال إلى فهم اِستعمال أبي لهذا الكلمة، في الأبحاث التي أجربتها حول الهجمات الشرسة ضد المثقفين الجزائريين التي اِنطلقت في بداية 1993. و بالفعل، فقد كانت تلك الهجمات التي شنها الإسلاميون الراديكاليون، الذي كانوا في حرب ضد الدولة الجزائرية، تهدف إلى اِستئصال ثقافة هذه الأمة و القضاء على من شكلوها. و تعلق الأمر بـ" إبادة مثقفين"، مثلما أشار إلى ذلك الكاتب و الفنان الجزائري، "مصطفى بن فوضيل". و يؤكد " مصطفى بن فوضيل"، الذي خلَّد هذه الاغتيالات في معرضه، الذي أقيم مؤخراً، بعنوان " بدون رؤوس"، هذا الأمر قائلاً: " حسب علمي، لم يحدُث، على الإطلاق، أن تم قتل مثل هذا العدد من المثقفين في وقت قصير كهذا".

في يوم 26 مايو 1993، تم قتل " الطاهر جاووت"، أحد أكبر الكتاب الجزائريين، بينما كان يغادر مسكنه، بحي " باينام"، في الضاحية الغربية لمدينة الجزائر، حيث قضيتُ طفولتي. لقد كان اِغتياله صدمة للبلد. كان " الطاهر جاووت"، البربري اللسان و الذي يكتب باللغة الفرنسية، قد درس الرياضيات. و ألف العديد من الروايات و الدواوين الشعرية و أنشأ أسبوعية " روبتور" ( قطائع ). هذا الكاتب الذي كان ينتقد السلطة القائمة و الإسلاميين العنيفين، توفي بعد أسبوع غيبوبة. و قد كتب " ج.ا.ب"، في يوم 31 ماي في قصيدة نشرتها " روبتور" قائلاً: " تتخيل الجزائر جثة بين يديها". لقد اِنتظرنا سبعة أيام يقظة " الطاهر جاووت" و يقظتنا من الكابوس. و كان اِنتظارنا سدى. لقد غطس البلد في الكابوس طيلة أكثر من عشر سنوات طويلة. و قد عنونت أسبوعية " روبتور" ، في 2 جوان،  مقالاً لها عن هذه الوفاة بـ " محاكم التفتيش تغتال الطاهر". و في 1 جوان من هذا العام، جرى اِسترجاع حزين لذكرى هذه المأساة من خلال ملتقى يحمل عنوان " حضور جاووت"، نظمته الجريدة اليومية النافذة " الوطن" التي كان مديرها " عمر بلهوشات" قد نجا من محاولة اِغتيال من طرف الجماعة الإسلامية المسلحة. و خلال هذا الملتقى قال الشاعر " أمين خان" أن اِغتيال هذا الكاتب " كان اِغتيالا للجزائر و لمستقبلها؛ ذلك لأن جاووت هو واحدٌ من أقلية من مثقفين كان بإمكانهم تشكيل نواة بديل ديمقراطي".

في سنة 1993، و بعد ثلاثة عشر يوماً من وفاة " جاووت"، اِستهدف القتلة الظلاميون أحد أشهر الأطباء النفسانيين الأفارقة، الدكتور " محفوظ بوسبسي"، و هو وجه آخر من وجوه " البديل الديمقراطي" المحتمل؛ ففي صباح الثلاثاء 15 جوان 1993، تعرض نائب رئيس الجمعية الدولية لعلم نفس الطفل و المراهق، إلى الطعْن بخنجر، عند مدخل المستشفى الذي كان يديره، في مدينة الجزائر. محفوظ بوسبسي، البالغ، وقتها، 57 سنة، كان قد نشر مؤلَّفَات مُجدِّدَة عن الأمهات العازبات و تحصل على الجائزة المغاربية في الطب. و قد وصف، في مقابلة صحفية، في 1991، سيطرة الإسلاميين على مستشفى مصطفى باشا في الجزائر العاصمة، بقوله:" لقد أحسستُ بألم لامتناهٍ عندما رأيتً هؤلاء الشبان الذين يظنون أنهم مُهيْمِنون و الذين أصبحوا، فجأة، قادة كبار بإمكانهم أن يصدروا أوامر لطبيب و يهينوه".

وقتئذ، صرَّح " أنور هدَّام"، الناطق الرسمي المقيت للجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية، و الذي لجأ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بأن اِغتيال بوسبْسي " لم يكن جريمة بل هو تنفيذ لحُكْمٍ ".

" الحكم " الديني الآتي جرى تنفيذه بعد أسبوع ؛ ففي يوم الثلاثاء 22 جوان، قبل عشرين سنة تقريباً، تعرض الدكتور" محمد بوخبزة"، عالم اِجتماع مرموق و مدير  المعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية الشاملة، إلى تقييد بحبل ثم الذبح أمام اِبنته في حي " تيليمْلي"، بمدينة الجزائر. يومها، قصدتُ بيتَ والدي، في ضواحي " الجزائر"، و قد وجدتُهُ في حالة غضب لم أعهدها فيه بسبب اِغتيال زميله السابق في الجامعة.

في يوم 29 جوان، أي بعد أسبوع، بالضبط ، أيقظني شخص كان يدق بدون توقف على باب مسكننا الحديدي السميك الذي وضعه والدي قبل فترة قصيرة. آنذاك، مثلما كتبت جريدة " الوطن"، فيما بعد، " كان كل يوم ثلاثاء يوما يسقط فيه مثقف برصاص القتلة الأصوليين". كان " محفوظ بنون" أستاذاً يعبر عن آرائه السياسية. و سبق لمحاضراته في الأنثروبورجيا ــ  التي تجرَّأ فيها على تدريس " داروين" ــ أن شهدت زيارة قائد الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذي أدانه كواحد من أنصار " البيولوجوية"، إلى أن طرده أبي من القاعة، مثلما ذكَّر بذلك أحد الطلبة. في 29 جوان 1993، لم يُقدِّم الشخص الذي كان يضرب بقبضته على الباب نفسه و لم يبتعد عنه. و قد حاول أبي، عدة مرات، الاِتصال بالشرطة، هاتفياً. و ربما بدافع الرعب من اِنسياح التطرف المسلح، الذي قضى على العديد من الضباط الجزائريين، لم تَرُدْ محافظة شرطة الحي، مطلقاً. و مع ذلك فقد كان الحظ معنا في ذلك اليوم. إذ في نهاية الأمر، عاد هؤلاء الزوار غير المرغوب فيهم و المجهولين أدراجهم. و لم نعلم قط السبب الذي جاءوا من أجله، و لا هويتهم. و بعد أشهر، قصدنا شخصٌ و ترك على طاولة المطبخ ورقة كتب عليها " أنت رجل ميِّت". كما كتب على صندوق بريدنا، بالقرب من اِسمنا عبارة " الموت لكم ".

و فيما بعدعلَّق الأصوليون الجزائريون في المساجد التي كان يسيطر عليها المتطرفون في مدينة الجزائر، قوائم الأشخاص الذين يجب قتلهم . و كان إسم " محفوظ بنُّون" فيهاـ إلى جانب أشخاص آخرين ــ  صحفيين، مثقفين، نقابيين، مناضلات في مجالات حقوق المرأة. كانوا سيغتالون زملاء آخرين من زملاء والدي، و أصدقائه و من أفراد عائلته، و 200.000 جزائري فيما سيعرف باِسم " العشرية السوداء". و رغم الفظاعة التي اِتخذتها الأحداث، فإن المجموعة الدولية تجاهلتهم. لقد ترك العالم كل تلك الضحايا التي خلفتها الأصولية تواجه الأمر وحدها.

و في نهاية الأمر، وجد أبي نفسه مجبراً على الفرار من شقته و التخلي عن التعليم في الجامعة. عندئذ، بدأت أفهم أن الكفاح ضد الأصولية الإسلامية و الإرهاب الذي يخوضه عدد لا يحصى من الناس الذين هم من أصول إسلامية في العديد من البلدان، كان أحد الكفاحات الأكثر أهمية في مجال الحقوق الإنسانية ــ و الأكثر تعرضا للمبالاة ــ في العالم. و للأسف، يبقى الأمر كذلك، بعد ثلاثين سنة.

 [9]إن أوائل المثقفين الذين اِغتالهم المتطرفون في الجزائر هم، أساساً، المثقفين الذين أدركوا أسرع من غيرهم و بوضوح طبيعة الوحش. و أحد هؤلاء " صالح شواقي"، صديق والدي، و هو مفتش في التعليم الثانوي و مناضل يساري و أحد إصلاحيي التعليم، كان قد حذَّر في أحد أوائل مقالاته الذي عنونه بدقة بـ:" التسوية مع الإسلام السياسي مستحيلة" ــ من أن " أخطر الأوهام و  أكثرها هلاكاً ... هو الاِستهانة بالأصولية، العدو اللدود لشعبنا".

في آخر كتاب له نُشِرَ بعد وفاته  بعنوان " آخر صيف للعقل"، و هو المثيل الجزائري لكتاب " 1984 " ، يصف " الطاهر جاووت" صعود التطرف بتفاصيل تسيل العرق البارد، و الحالة التي سيكون عليها البلد إذا ما اِستولى الأصوليون على السلطة ــ بواسطة الاِنتخابات أو بالقوة. و في الجحيم اللاهوتي الذي رسمه " جاووت"، يجري توقيف النساء اللائي يرتدين لباساً غير لائق في الحواجز على الطرقات. أما الفتيان فيجري حشو دماغهم بأفكار غريبة كما أنهم يثورون ضد آبائهم الأكثر تعلقاً بالحرية. و في هذا المجتمع تنغلق الأذهان، و تتحطم العائلات. و لكن بعض السكان يرفضون الخضوع للأصوليين.

بطل هذه الرواية " بوعلام يَكَّرْ" ــ الذي يعني اِسمه من" ينهض أو من يستيقظ ــ بالأمازيغية ( لغة بربرية ) ــ هو مالك مكتبة لبيع الكتب صاحب تفكير حر. و يصف " جاووت " البطل " يَكَّرْ" بهذا الوصف:" كان أحد الذين قرروا المقاومة، و الذين أدركوا، أنه عندما تنجح الجماعات المواجِهَة في نشر الخوف و فرض الصمت، فإنها تكون قد اِنتصرت". و" جاووت" نفسه، و " بوسبْسي" و " بوخبزة" و " شواقي" و الكثير من المثقفين المستهدَفين يشبهون " بوعلام يَكَّرْ" و موتهم أوقف مقاومتهم و أرغمهم على الصمت. و مع ذلك، واصل آخرون الصمود. و حتى لما طُرِدَ والدي من مسكنه، بقي في البلد و واصل نشر نقده الحاد للأصوليين المسلحين و للحكومة التي كانوا يقاتلونها. و في مساهمة من ثلاث حلقات، نشرتها جريدة " الوطن"، في نوفمبر 1994، بعنوان " كيف ولَّدت الأصولية إرهاباً لا سابق له"، أدان والدي الإرهابيين " الذي أقدموا على قطيعة جذرية مع الإسلام الحقيقي الذي كان عليه أجدادنا".

و من جهتها، ولدت الجمعية اليسارية للنساء " رفد"  ( التجمع الجزائري للنساء الديمقراطيات ) بعد جنازة أحد المثقفين المغتالين، و قد نزلت عضواتها إلى الشوارع عاريات الرأس، رافعات صور القتلى و هن يحملن دارئات قماشية تعبيرا عن الاحتجاج. و كانت فلسفتهن هي فلسفة " جاووت" و التي تقول :" إذا صمتَّ فإنك ستموت، و إذا تكلمتَ ستموت، إذن، قُلْ كلمتك و مُتْ".  إن مَنْ خاضوا الكفاح الفكري ضد الأصولية في الجزائر في بداية سنوات التسعينيات، و الذين عبروا عن عن ذلك و ماتوا ــ أو بقوا على قيد الحياة ــ لم يتلقوا أي دعم دولي، تقريباً. و تصرح " شريفة بوعتة"، خبيرة نفسية جزائرية و مدافعة عن حقوق النساء بأن لا يزال هناك غضب كبير على من هم في الخارج و كان بإمكانهم أن يكونوا حلفاء التقدميين و المعادين للاِمبريالية و لكنهم لم يفعلوا:" لا أحد قال نحن معكم". و من جهة ثانية فإن حكومات مثل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية و حكومة بريطانيا لم تتوانيا عن زيادة الوضع سوء من خلال تمويل " الجهاد" المعادي للسوفييت في أفغانستان البعيدة و الذي كان له أثر مباشر على الجزائر. لقد كان أكثر الإرهابيين دموية في سنوات التسعينيات من القرن الماضي معروفين كـ " أفغان" بسبب تجربتهم كمقاتلين أجانب في هذا "الجهاد".

و الدولة الجزائرية هي الأخرى تسببت في سقوط ضحايا ، حتى و إن كان ذلك بمقدار أقل بكثير مما تسبب فيه الإرهاب، كما أنها اِستعملت التعذيب المُعمَّم ضد من اِشتبه في ضلوعهم في الإرهاب و جرى فقد 8000 شخص، و لكن نزاع سنوات التسعينيات من القرن الماضي هو في الجزء الأكبر منه عدوان الأصوليين ضد المجتمع الجزائري. و من جهة ثانية، فإن المثقفين الذين اِستهدفتهم الجماعات الإسلامية المسلحة كانوا جد متعلقين باِستقلاليتهم و كانوا ينتقدون الدولة و التطرف معاً.

في بداية الإرهاب، كان النزيف الذي تعرض له رجال الثقافة قد اِنطلق، في مارس 1993 ، باِغتيال " الجيلالي اليابس" عالم اِجتماع و وزير سابق للتربية وصفه أبي بأنه " أحد المربين الأكثر تفانياً بين أفراد جيله". ثم جاء دور الطبيب و الروائي " الهادي فليسي" الذي مات مطعوناً، ثم أعقبه اِغتيال الخبير السياسي " حفيظ سنحضري". بعد قتل " جاووت" و الآخرين، في شهر جوان، اٍنطلقت موجة طويلة من قتل الصحفيين و عمال الصحافة في أوت 1993، باِغتيال صحفي التلفزيون المعرب " رابح زناتي". و خلال السنوات التالية، جرت " تصفية" رئيس تحرير جريدة " الخبر"، " عمر أورتيلان" و كتاب أعمدة مثل " سعيد مقبل"، صاحب الأسلوب المتميز و صحفيين آخرين مثل " نعيمة حمودة" من أسبوعية " ريفوليسيون أفريكان" و قد طال القتل موظفين تقنيين في الصحافة مثل المصححة اللغوية " ياسمين دريسي"، من الجريدة المسائية " لوسوار دالجيري".

و قد قد عبَّر " أنور هدَّام" الناطق الرسمي باِسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بصريح العبارة للجريدة الفرنسية " ليبيراسيون" بأنه اِقترح على " إخوانه المجاهدين" اِستهداف الصحفيين من بين فئات أخرى. و عندما لم تكفِ الاِغتيالات للقضاء على الصحفيين الذين يشكلون لهم تهديداً، وضع الإرهابيون، عدة مرات، قنابل في مقرات الجرائد فقتلوا أشخاصا مثل عاشق الشعر الصحفي الثقافي بجريدة " لو سوار دالجيري"، " علاوة آيت مبارك"، و "محمد ضربان" الذي كان عائدا من مشوار تسوُّق. و في المجموع قتلت الجماعات الأصولية المسلحة  100 عامل في الصحافة، من بينهم 60 صحفيا، بين سنتيْ 1993 و 1997 ، حسب كتاب عنونه، بحق،  " أحمد عنصر" ، الصحفي بجريدة " الوطن " بـ " الحبر الأحمر".

و دفع هذا الأمر العديد من الصحفيين لمغادرة مساكنهم؛ من هؤلاء " رشيدة حمادي"، صحفية في الثانية و الثلاثين من العمر، جادة في عملها، كنتُ قد اِلتقيتُها، خلال مأدبة إفطار في شهر رمضان في مسكنها الآمن. و قد قصدت بيت أهلها لقضاء ليلة. و عندما كانت تَهُمُّ بمغادرة مسكن عائلتها في فجر يوم 20 مارس 1995، وجدت في اِنتظارها سيارة إسلاميين مسلحين. و قد فتح أحدهم النار عليها من بندقيته الآلية. و قد أصاب الرصاص " رشيدة " و أختها " مريم" التي كانت تحاول حمايتها. و قد لفظت الاِثنتان أنفاسهما في المستشفى.   

 [10]لقد اِستهدفت هجمات الجماعة الإسلامية المسلحة  حَمَلة المعرفة و العلماء و العديد من الفئات المهنية؛ فقد قتلت تلك الجماعة محامين  مثل " ليلى خدَّار" التي تعرضت للقتل أمام مسكنها، و كذا رئيس رابطة حقوق الإنسان، " يوسف فتح الله" التي قُتِلَ في مكتبه. كما أنها قتلت قضاة مثل " الأخضر روَّاز"، بل و حتى طلبة في الحقوق رفضوا الاِنقطاع عن الدراسة كما كان الحال مع " آمال زنون ــ زواني"، التي قُتِلَتْ و هي في الثانية و العشرين من عمرها. و قتل الإرهابيون اِقتصاديون مثل " عبد الرحمان فارالذهب"، و معلمين ( عادة ما جرى ذلك أمام تلاميذهم ) كما حدث مع " عبد العزيز شليغم "، و هو في الثالثة و الثلاثين من عمره  و مديرات مدارس مثل " مزيان زهور"، و كانت في سن الرابعة و الخمسين.

كما طال قتل تلك الجماعة طالبات مثل " نعيمة قارعلي" البالغة تسعة عشر سنة، و " رزيقة ملوجمي"، التي لم يتعدى عمرها الثامنة عشر؛ و الاِثنتان تجرأتا على الخروج عاريتيْ الرأس.

و صفت تلك الجماعات خبير لغة الإشارات " ناصر واري" الذي عاد من الحج، و الدكتور " الجيلالي بلخنشير"، خبير مرموق طب الأطفال و مناضل ضد التعذيب. لقد كانت تلك الجماعات متعددة التخصصات؛ إذ قتلت، في فترة واحدة من ربيع 1994، عميد مدرسة الفنون الجميلة " أحمد عسلة " و " صالح جبايلي" عميد كلية العلوم. و قبل فترة قصيرة من اِغتياله، قال " جبايلي":" إنه، بالضبط، الوقت الملائم لتشخيص المشاكل و التصرف بشكل مغاير. هذا يجب أن يكون اليوم أو لن يكون، علينا أن نستغل هذا الوقت الخالي من الطابوهات". و مثلما كتبتُ، مؤخراً، " آمال" اِبنة " فار الذهب"، في مرافعة حول اِغتيال أبيها حتى لا تتعرض تلك الاٍغتيالات للنسيان: قائلة:" هل كان يعلمون مدى حبك لبلدك؟ هل كانوا يعلمون أنك كنتَ تريد أفضل الأشياء للشبيبة الجزائرية؟". إن قتل أشخاص في مستوى هؤلاء من التعليم، و الكفاءات و الاِلتزام إزاء بلد في طور التنمية و مستقل منذ عشرين سنة فقط ــ و غيرهم و هُمْ  كُثْر لا يمكن ذكرهم  كلهم في هذا المقال ــ كأنه قتل للبلد نفسه.

لقد هرب حوالي 71.000 من حملة الدبلومات الجامعية من أمام الهجوم الأصولي بين سنتيْ 1992 و 1996 وحدها. و تلك هجرة أدمغة لا تزال آثارها محسوسة في البلد إلى اليوم. و إذا كان يجب، أيضا، تذكر قتل الناس البسطاء أيضا، و كلهم في نفس الدرجة من الأهمية في المجال البشري، فإن هذه الاِغتيالات هي سكين في عنق كل المجتمع؛ فقد كان لكل اِغتيال الكثير و الكثير من الضحايا.

و لتخليد ذكرى هؤلاء المثقفين ضحايا الأصولية في الجزائر منذ عشريتيْن، يجب الإصغاء و دعم ــ أو على الأقل ملاحظة ذلك ــ أمثال " بوعلام يَكَّر " اليوم. إنهم موجودون، دائماً، من أفغانستان إلى مالي، مروراً بساحة " تقسيم " في تركيا، و هم واقفون يقاومون سلميا التطرف، و عادة ما يكونون وحدهم  دون مساندة و دون ضجة على المستوى الدولي. إنهم مستمرون في التعبير عن موقفهم، و أحياناً، فإن ذلك يكون تحت التهديد بالموت؛ ففي شمال غرب الباكستان، تم قتل آلاف المثقفين و المناضلين السياسيين خلال العشرية الماضية، و هذا نموذج للكارثة التي لا تثير اِستنكار التقدميين في الغرب مثلما الاِستنكار الذي تثيرها الهجمات التي تستعمل فيها الطائرات بدون طيَّار. و في هذا الصدد، فإن أفكاراً تذهب نحو " زرتيف أفريدي"، مُدرِّس في جمرود، الذي ناضل من أجل حق النساء في الاِنتخاب في المناطق القبلية و ساعد الكبار على الاِنتظام من أجل مواجهة الإرهاب. لقد جرى قتله بينما كان يمشي نحو مدرسته في يوم 8 ديسمبر 2011. و مثلما يذكر صديقه " سلمان رشيد" فإنه " كان يناضل من أجل تحرير الروح البشرية بواسطة التربية و اليقظة".

و حتى تونس، مهد الربيع العربي، شهدت أول اِغتيال لمثقف، و هو المحامي اليساري " شكري بلعيد"، الذي تمت تصفيته في شهر فيفري من العام الحالي. و هو رجل، مثل أوائل الشهداء الجزائريين، اِستطاع إدراك الخطر المحدق ببلده و دعا مواطنيه إلى مواجهة هذا التهديد. إن تضحيات مثل تضحيته جديرة بالتذكير بها.

لقد كتبتُ هذا المقال، لتخليد روح ضحايا الحرب التي يشنها الجهاديون الجزائريون على الثقافة منذ عشرين سنة. و هذا حتى نقول لعائلاتهم و لزملائهم الذين يواصلون عملهم، بأن تقدميي البلدان الأخرى لن ينسوهم. و إذا كان الموت قدر الرجال و النساء، فإن الكلمات لن تموت أبداً، و لذا فإنني أبقى أرتوي من كلماتهم كل يوم. لقد علمونا أن نكون متبصرين و ثابتين في نقد اليمين المتطرف، أينما كنا، و أن من يقاومون بالقلم وحده أو بصوتهم، في حاجة إلى دعم.

" من يقاتلوننا بالقلم يجب أن يموتوا بالسيف" هذا هو الأمر الذي وجهته الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، مثلما ذكر ذلك، " أحمد عنصر" في كتابه " الحبر الأحمر"؛ أي " القلم ضد الكلاشنيكوف". و قد تساءلت " غنية عُكًّازي"، في الليلة الموالية لليوم الذي دمرت فيه قنبلة وضعتها الجماعة الإسلامية المسلحة في سنة 1996، مقرات صحف في مدينة الجزائر، قائلة:" هل هناك معركة أكثر اِختلالا من هذه؟". لقد لجأت هذه الصحفية رفقة زملاءها الصحفيين إلى حطام تلك المقرات لإصدار الجريدة في اليوم الموالي، مهما كلف ذلك من تضحية. و قد قالت في ختام مقالها المنشور في ذلك العدد البطولي من الجريدة الصادر، بتاريخ 12 فيفري 1996: " إن المؤكَّد أن القلم لن يتوقف...".

إن شجاعة كهذه تستحق التضامن و التسجيل؛ لقد كتبت " شريفة خدار، في رسالة مفتوحة و منشورة في الأسبوع الماضي، و هي موجهة إلى أختها " ليلى" و أخيها " محمد رضا"، اللذيْن قتلتهما الجماعة الإسلامية المسلحة، يوم 24 جوان 1996:" إننا لن نرقى إلى مستوى تضحيتكما و لن نكون جديرين بكما، إذا لم نتوقف لحظة لتخليد روحيكما، و التذكير، من خلالها، بتضحيتكما من أجل جزائر معاصرة، تسير قدماً إلى الأمام و لا تتقهقر".  

[11]

و اليوم، بعد عشرين سنة، من المستعجل تذكر ــ و اِستخلاص الدروس ــ ما جرى حلال هذه العشرية السوداء التي ضربت الجزائر. و بادئ ذي بدء، فإن على هذه الأحداث أن تذكرنا أن ذوي الأصول الإسلامية ــ و بالخصوص المنتمين إلى اليسار ــ كانوا، دوماً، أكثر من اِستهدفهم الأصوليون المسلمون ــ و كانوا معارضيهم الأشداء.

إن الأصولية تعيش حركة مدّ في اليمن و في تونس و خارجهما.  و بهذا الخصوص، تحدثت أستاذة جامعية، بصراحة، عن الرعب الذي اِمتلكها منذ اِغتيال " شكري بلعيد" و أرغمها ذلك على تغيير أماكن عيشها اليومي لحماية نفسها. و اليوم، يجب أن تستخدم التجربة الجزائرية كإنذار لمخاطر هذا المآل و مساعدة الناس في تحديد أفضل وسيلة لمكافحة تلك الأصولية.  و في مقال بالغ الدلالة اليوم ،كما كان الحال في الماضي، عندما كُتِب في 1993، أي سنة قبل اِغتيال كاتبه،  شرح " صالح شواقي"، الأمر قائلا:" إن أفضل وسيلة للدفاع عن الإسلام تكمن في إبعاده عن كل تلاعب سياسي... و أنفع طريقة للدفاع عن الدولة العصرية هي جعلها في منأى عن كل اِستغلال للدين لأغراض سياسية".

إن ما حدث في الجزائر، منذ عشرين سنة، يُبيِّن أن التحدي الذي فرضته الأصولية على الثقافات و على أنماط العيش المحلية هو واقع موجود. و ليس من الصدفة أن تكون آخر كلمات آخر عمل لـ " الطاهر جاووت" في شكل سؤال:" هل سيعود الربيع من جديد؟"

 

كريمة بنُّون، أستاذة بكلية الحقوق بكاليفورنيا، " دافيس سكول أو لاو"، و هي مستشارة سابقة لدى منظمة العفو الدولية، و مؤلفة كتاب سيصدر عما قريب بعنوان " فتواكم لن تطبق هنا: قصص غير مروية عن الكفاح ضد الأصولية الإسلاموية"